Site icon IMLebanon

قصة الأحداث الغابرة والثورة المضادة والممارسات السياسية

قصة الأحداث الغابرة والثورة المضادة والممارسات السياسية

جمهورية تغرق في وهاد المراهنات وفي أجواء التحالفات

والحوار يدور حول خيارات صعبة وطروحات معقدة

وقف الرئيس سعد الحريري وهو يشعر بارتياح كبير، عندما رحب الرئيس العماد ميشال عون، لدى وصوله الى بيت الوسط والى جانبه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل.

اعتقد الرئيس سعد الحريري، أنه لم يحضر قالب كاتو ليطفى رئيس كتلة التغيير رموزاً من الشموع، تركز الى أنه بلغ الثمانين من عمره، بل أعد مفاجأة تأخرت بضعة أشهر عن اللقاء الذي جمعهما في باريس، الا ان وجود النائب السابق غطاس خوري أضفى على العشاء السري أجواء من الحبور، لم تكن البلاد بحاجة اليها، بل أصبح الحوار السياسي في لبنان بحاجة الى تزخيمها.

هل كان سعد الحريري يشعر أن حلفاءه وأصدقاءه في ١٤ آذار لم يتلقفوا الوديعة التي تركها في أجوائهم، عندما دعا الرئيس العماد ميشال عون الى محاورة الأعضاء والأقطاب المسيحيين خصوصاً في ١٤ آذار.

هذا السؤال طرحه أمس الأول السبت، رجل أعمال ينشط في القارة الاوروبية، وهو ينقل معلومات على جانب كبير من الاهمية، مفادها أنه سمع قبل عودته الى بيروت، أن هناك قراراً متخذاً بتسهيل اجراء الانتخابات الرئاسية، خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.

وصارح رجل الأعمال اللبناني عدداً من زملائه بأن جماعة ٨ آذار، وخصوصاً الأمين العام ل حزب الله السيد حسن نصرالله، بأن لا انتخابات رئاسية الا اذا برز توافق مسبق، على انتخاب الرئيس العماد ميشال عون، وان هذا هو الوفاق المنشود.

وقال الرجل العائد الى لبنان، بعد غياب دام قرابة الأربعة أشهر، ان النزول الى البرلمان، فيه تذكير بوجود البرلمان، لكنه لن يقود الى انتخابات رئاسية.

وأضاف: ان القوى الاقليمية باتت مقتنعة بأن العماد عون يحظى بموافقتها على ترشحه للرئاسة الأولى، وان الرئيس سعد الحريري ما كان ليدعوه الى داره، ويطفئ الشمعة في عيد ميلاده، لو لم يكن يحمل ضوءاً من مراجعه الاقليمية موافقة على الخطوة التي أقدم عليها.

ماذا يفعل الآخرون ازاء هذه التطورات؟

سؤال دقيق لا بد من طرحه، لأن في البلاد حكومة هربت مما يجري، ولعل سفر الرئيس تمام سلام الى روما، في اجازة غير معلنة رسمياً، جزء من المشكلة، لأنه مكتف بالاجماع عليه، ووصفه بالرجل القادر على مواجهة الصعاب، ولأن ساعة الرئيس سعد الحريري لم تحن بعد للوصول مجدداً الى رئاسة الحكومة.

وفي المعلومات أنه متى أزفت الساعة، يتخذ الرئيس سعد الحريري قراره النهائي بالبقاء في لبنان، لأن حكم الأقوياء هو الذي ينقذ لبنان من العثرات الأمنية والسياسية، والمقصود بذلك القرار المطلوب: رئيس جمهورية قوي يواكبه رئيس مجلس نيابي يتمتع بالقوة نفسها، ورئيس مجلس وزراء يحرز كثافة شعبية تمتد من الشمال الى الجنوب، ومن البقاع الى بيروت مروراً بالجبل. انها جمهورية الاقوياء، لأن البلاد لا تستقيم عندما يكون واحدا قوياً أو اثنان من الأقوياء، وثالث من الضعفاء.

يعتقد المراقبون ان همروجة الانتخابات الرئاسية، لا تستقيم بحثّ النواب على النزول الى البرلمان لتأمين النصاب، وقد مرت تسع عشرة جلسة نيابية، ولم يكتمل فيها النصاب. وهذا ما هو متوقع ان يحصل في الجلسة العشرين في ١١ آذار المقبل.

ماذا يحصل اذا بالغ أعداء العماد عون في التجاوب مع الرغبة الاقليمية؟

يجيب قيادي بارز بأن البلاد ستبقى أشهراً وربما سنوات من دون رئيس، وقد يعتاد اللبنانيون على البقاء من دون رئيس أول يقود السفينة الى الاستقرار، وبعد ذلك تصدر دعوات الى اجتماعات لبنانية نيابية، للاتفاق علي طائف جديد. قد يسمونه مجلساً تأسيسياً، وهذا أمر ليس في مصلحة لبنان، والحديث عنه يدور عبر تحليلات سياسية تصدر بين وقت وآخر، وهو من الاخطار المحدقة بالكيان اللبناني وبالاستقرار فيه.

يُروى أن الرئيس الشهيد رينه معوض عندما عاد الى لبنان، قال للنائب نصري المعلوف،إنه خائف على مصير البلاد، وعلى الاستقرار، اذا لم يُحسن اللبنانيون التعامل مع اتفاق الطائف لأنه الحصانة الأخيرة لهم.

وأردف: خائف أنا من أن أكون آخر رئيس ماروني في لبنان.

والمراقبون يتساءلون ما اذا كان الرئيس سعد الحريري، عندما زار الرئيس نبيه بري بعد تكريمه للعماد ميشال عون، قد بحث موضوع الرئيس العتيد للبنان، خصوصاً لأن لرئيس مجلس النواب صداقة عريقة وطويلة مع الوزير والنائب السابق جان عبيد، وجذوراً تحالفية مع الوزير والنائب وليد جنبلاط الذي يرشح للرئاسة الأولى عضو كتلته هنري حلو، أو جرى البحث في مرشح ثالث قد يكون الوزير السابق النائب سليمان فرنجيه.

وهذه التعابير تبقى في اطار التكهنات، في ضوء الحوار المستمر بجدية بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية لأن ما قام به النائب ابراهيم كنعان، نيابة عن عون، ورئيس لجنة التواصل في القوات باسم الدكتور جعجع، قد حسم الحوار ايجاباً، ووصل بالتفاهم بين الاثنين الى منتصف الطريق، ويبقى التفاهم على موضوع رئاسة الجمهورية.

طبعاً، يحفظ العماد عون والدكتور جعجع، وإن لم يلتقيا مجدداً بعد، جميلاً لمن سعى وردم الهوة بين الرابية ومعراب ، أي للوزير السابق الشيخ وديع الخازن، الذي طغت اخباره على وسائل الاتصالات كمرشح بارز ومقبول من الكثيرين كما من الفاتيكان ومن سفارات غربية، لكنه يعمل في صمت للصالح العام وللتقارب بين الجميع.

هل تكون الجمهورية ذاهبة الى الضياع، بعدما هبطت في الفراغ وغاصت في الشغور؟

السؤال يطرح بإلحاح، في وقت تسعى فيه رموز سياسية الى ملء الفراغ بجهود هي أقرب الى الفراغ من أي شيء آخر.

كيف كانت الأمور تجري في السابق؟

هبوب العاصفة

كان اقدام الرائد العربي جمال عبد الناصر على تأميم قناة السويس، رداً على المواقف العدائية البريطانية، بداية عصر جديد في الشرق الأوسط.

الا ان العدوان الثلاثي على مصر، من قبل الغزوة البريطانية الفرنسية الاسرائيلية، قلب الأوضاع رأساً على عقب، وبدت نهاية الاستعمار ماثلة في الآفاق، مع بروز عصر جديد قوامه الولايات المتحدة الأميركية من جهة، والاتحاد السوفياتي السابق من جهة أخرى.

وبتعبير أكثر دقة، كان العام ١٩٥٦ بداية العصر الاميركي بزعامة الرئيس دوايت ايزنهاور، وبداية مماثلة للاتحاد السوفياتي، أو بداية الصراع الجديد في الشرق الأوسط، ونهاية الاستعمار القديم بزعامة رئيس وزراء بريطانيا أنطوني ايدن، ورئيس وزراء فرنسا غي مولليه ورئيس وزراء اسرائيل دافيد بن غوريون.

كيف بدأت الأحداث بالظهور؟

تقول المعلومات إن الرئيس الأميركي ايزنهاور، أعلن ما عُرف ب مبدأ ايزنهاور الذي يعني تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية سخية الى ما وصفه ب الشعوب الحرة في الشرق الأوسط، مقابل وقوفها في وجه المد الشيوعي في ٣ كانون الثاني ١٩٥٧.

ماذا كانت ردود الفعل لبنانياً على ذلك؟

– رئيس الحكومة اللبنانية سامي الصلح يعلن ترحيب لبنان بالعرض الأميركي ٢٤ كانون الثاني ١٩٥٧، وسط تنديد المعارضين لهذا الانحياز الى الغرب.

– وفي السادس عشر من آذار يدخل لبنان رسمياً في مبدأ ايزنهاور.

– في الأول من نيسان تحتج المعارضة اللبنانية أيضاً على هذا الانحياز الى الغرب، وتتقدم من رئيس الجمهورية كميل شمعون بمذكرة تدعو فيها الى وقف المفاوضات في هذا الشأن مع الجانب الأميركي، الى ما بعد الانتخابات المزمع اجراؤها في شهر حزيران. ومن الموقعين على المذكرة: كمال جنبلاط، حميد فرنجيه، أحمد الأسعد، حسين العويني، عبدالله اليافي، صبري حماده، صائب سلام.

– وفي خطوة تابعة، سبعة نواب يقدمون استقالتهم احتجاجاً على ربط البلاد بسياسة خارجية جديدة لا تزال موضع نقاش وخلاف بين اللبنانيين وهم: رشيد كرامي، عبدالله اليافي، حميد فرنجيه، صبري حماده، أحمد الأسعد، كامل الأسعد، عبدالله الحاج ٥ نيسان ١٩٥٧.

– وتمضي المعارضة في التشديد من ضغوطها على الحكم فتنظم في ٣٠ أيار تظاهرة ضخمة في بيروت، تطالب باستبدال حكومة سامي الصلح بحكومة حيادية تتولى الاشراف على الانتخابات النيابية الآتية، فتصطدم التظاهرة برجال الأمن، وتقع اشتباكات دامية معهم، ويسقط سبعة قتلى ويجرح العشرات بينهم صائب سلام ونسيم مجدلاني.

وتجري الانتخابات النيابية بين ٩ حزيران و٣٠ منه وقد أدت تلك الانتخابات الى سقوط عدد من زعماء المعارضة ومنهم: كمال جنبلاط، أحمد الأسعد، صائب سلام وعبدالله اليافي.

ترافقت تلك الأحداث مع ظهور الوحدة العربية الأولى في التاريخ بين مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة في الأول من شباط ١٩٥٨.

وبرز محور عربي آخر، معارض برئاسة العهد الهاشمي في العراق، وظهر غليان شعبي، بين معسكر عربي قوي بزعامة جمال عبد الناصر في القاهرة وشكري القوتلي وصبري العسلي وناظم القدسي في دمشق.

وكان طبيعياً أن يمتد الانقسام العربي الحاد، الى انقسام سياسي حاد في لبنان بين اليمين واليسار، وبين بعض المسيحيين وبعض المسلمين.

وأخذ اليسار اللبناني والقوى الاسلامية، تتجه الى دمشق لمباركة الوحدة، فيما يتحفظ الآخرون على هذا المنحى.

ويقول جوزف أبو خليل رئيس تحرير جريدة العمل الكتائبية في كتابه عمري، عمر لبنان، ان الوفود أخذت تتردّد من لبنان، مواكب تلو مواكب، ووجهتها دمشق، سواء كان للتهنئة أو للمشاركة في استقبال الرئيس جمال عبدالناصر، وهو يتفقد الاقليم الشمالي من جمهورية الوحدة، مع ما يعني هذا الزحف من انجذاب بالمشروع الوحدوي ومبايعة له ولزعيمه. وردّت الكتائب على هذا الحراك باستقبال شعبي ضخم لرئيسها الشيخ بيار الجميّل العائد من زيارة للولايات المتحدة الأميركية. كان ذلك يوم الأحد ٤ أيار ١٩٥٨، امتلأت باحات المطار الدولي وساحاته الخارجية كما مدارجه بالحشود الآتية من شتى المناطق اللبنانية. ومن المطار، حتى بيت الكتائب المركزي في منطقة الصيفي من العاصمة، مواكب تلو مواكب تتقدمها سيارة بيضاء مكشوفة، يقف فيها رئيس الكتائب والى جانبه… وزير الخارجية شارل مالك، تدليلاً على مشاركة لبنان الرسمي في هذا الاستقبال.

والمفارقة هنا أن الكتائب كانت قبل شهور في طليعة المعارضين ل العهد، عهد الرئيس كميل شمعون، وقد درجت العمل على تخصيصه بزاوية صغيرة في صدر صفحتها الأولى تذكّره في كل يوم بما كان قد قطعه على نفسه من وعود في الاصلاح الداخلي، فكانت من جملة من دفعوا ثمن معارضتهم للعهد في انتخابات حزيران ١٩٥٧، ومنه سقوط موريس الجميّل الكتائبي في دائرة المتن، ليفوز مكانه أسد الأشقر القومي السوري، ولم يكن الأمر مصادفة. بيد أنني لم أتفاجأ عندما اختفت الزاوية المشار اليها يوماً لتحلّ مكانها زاوية أخرى عنوانها نحن معك، أي مع رئيس الجمهورية. لقد اشتدّت الحملة على العهد وعلى سياسته الخارجية، فبات انحياز الكتائب الى جانبه، والالتفاف حوله أمراً لازماً. قبل ذلك، حاولت الكتائب وحاول الكثيرون الفصل بين الشأن الداخلي والضغوط الخارجية، أو بين الموقف من التردّي في الأوضاع الداخلية من جهة، المواقف من العاصفة الناصرية – اليسارية التي كانت تهبّ على لبنان.

ويروي جوزف أبو خليل ان الأحداث بدت ساخنة، إثر اغتيال الصحافي الكبير نسيب المتني صاحب جريدة التلغراف المعارضة لعهد الرئيس كميل شمعون ليلة الثامن من أيار العام ١٩٥٨.

لا أحد عرف من اغتال نسيب المتني، لكن اذاعة صوت العرب كانت تواكب تلك الحقبة بتعليقات مذيعها الشهير أحمد سعيد.

كان واضحاً ان الشارع اللبناني أضحى شارعين، ثمة شارع مسيحي مناوئ للوحدة السورية – المصرية، وثمة شارع اسلامي – يساري يحبّذها وتهفو قلوبه الى الانضمام اليها.

ووصل الاحتقان السياسي الى نشوب حرب امتدت ستة أشهر في طرابلس بين الجيش والشباب المعارض الذي كان يحصل على السلاح من سوريا.

إلاّ أن جوزف أبو خليل يروي أيضا ان الشيخ بيار الجميّل قال له: كفوا عن مهاجمة صائب سلام وأمثاله لأننا محكومون بالتلاقي.

الآن الثورة المتمادية عجزت عن إسقاط الرئيس كميل شمعون أو حكومة سامي الصلح.

ويورد معلومات أبرزها بروز تسوية سياسية في البلاد.

كان ذلك صبيحة يوم ١٥ تموز ١٩٥٨ عندما جاء من يقرع باب منزلي بعنف، ليقول لي، وهو يلهث، ان ثمة بوارج حربية تقترب من الشاطئ اللبناني، هي بالتأكيد، قطع الأسطول السادس الأميركي المنتظر، وقد رآها بعينه من على سطج منزله. الآتي بهذه البشارة هو أنطوان الحاج الذي، بحكم أواصر القربى الذي تربطني به، عائليا وحزبيا، كان من جملة من يشارك في تقديم بعض البرامج الاذاعية، الهزلية المرمى، فبرع فيها وأجاد، وبخاصة في أحد أدواره كمواطن أرمني الأصل، اذا تكلم العربية، كان كلامه كلاما كاريكاتوريا. لكن ما جاء به هذه المرة لم يكن من قبيل المزاح، ولا كان باللكنة الأرمنية.

لقد كان قدوم الأسطول السادس الأميركي منتظرا، لأن الحكومة اللبنانية كانت قد طلبته. إلاّ أن حضر بعد اعلان الانقلاب العسكري في العراق، من أنصار القائد جمال عبدالناصر، بقيادة العقيد عبدالكريم قاسم والعقيد عبدالسلام عارف.

ومع ذلك كان الانزال البحري الأميركي على الشاطئ، وظهور المارينز أثره المعنوي. واذا ما صحّت الاشاعات فقد بدا ان ما حدث في العراق لن يحدث مثله في لبنان.

وتأكد ان الثورة الى انكفاء وتراجع طالما انها لا تتقدّم، أو هي عازمة على التقدم. هذا فضلاً عن ان ولاية الرئيس شمعون قاربت على النهاية: بضعة أيام فقط ويصبح انتخاب الرئيس العتيد الفرصة المؤاتية للدخول في التسوية السياسية التي راحت شروطها تتكامل داخليا وخارجيا. والمدخل اليها هو في التفاهم على الشخص والمواصفات التي يفترض أن يتحلّى بها في هذه الحال.

وكان قائد الجيش اللواء فواد شهاب هذا الشخص الذي تم انتخابه رئيسا للجمهورية يوم ٣١ تموز ١٩٥٨ في دورة ثانية قضى بها ترشح عميد الكتلة الوطنية ريمون اده من قبيل الحرص فقط على المظهر الديموقراطي لهذا الانتخاب.

لكن الصدى لدى المسيحيين عموماً كان أقرب الى الخيبة منه الى الارتياح. فاضافة الى انشدادهم، عاطفياً، الى شخص الرئيس شمعون لما أظهره من صلابة حيال الهجمة التي يتعرّض لها لبنان، كانت مشاعرهم حيال شخص اللواء شهاب مختلفة. بكلام آخر كان صعباً عليهم أن يروا الرئيس شمعون، الذي خاض المعركة بكل ما ملكت يداه، يغادر القصر الجمهوري قصر القنطاري فيما الداخل اليه قائد الجيش الذي آثر الحياد رغم حاجتهم الى حماه. ذلك كان المناخ العام في الشارع المسيحي. وفي الكتائب خصوصا، وان كان الشيخ بيار يبدي تفهماً للموقف الذي اتخذه اللواء شهاب من الأحداث الجارية.

كانت لحزب الكتائب اذاعة خاصة خلال الحرب، إلاّ أن اتفاق الرئيس عبدالناصر، والموفد الأميركي روبرت مورفي، كان اتفاقا بين الرئيس ايزنهاور والرئيس عبدالناصر على انتخاب فؤاد شهاب ووقف الحرب على الساحة اللبنانية.

وهكذا أصدر بيار الجميّل أمراً الى الأستاذ أبو خليل بوقف الاذاعة الكتائبية.

كان يوم الثالث والعشرين من أيلول عندما أقسم الرئيس المنتخب اليمين الدستورية أمام المجلس النيابي، وكان التسلّم والتسليم، أي انتقال السلطة من رئيس ذاهب الى رئيس آتٍ، تماما كما تقضي الأصول الدستورية. فلا اقالة، ولا استقالة، ولا تقصير ولاية كما كانت المعارضة المسلحة تبغي وتريد. واذا صحّ ان الرئيس كميل شمعون قد نوى، في وقت من الأوقات، التجديد لولايته، فعدّل قانون الانتخاب لهذه الغاية، وأجرى انتخابات عامة، في العام ١٩٥٧، سقط فيها زعماء ووجهاء سياسة وانتصر فيها مغمورون ومبتدئون، إلاّ أن الأمر ما كان ليقتضي سلاحا وإشعال فتن واضطرابات تدوم منذ أشهر عدّة.

كان أول تحرّك يقوم به الرئيس كميل شمعون لدى مغادرته القصر الجمهوري في القنطاري، التوجه رأسا الى بيت الكتائب، ليشكر الشيخ بيار الجميّل على موقف الكتائب، في رسالة مؤرخة في ٢٢ أيلول ١٩٥٨.

أما العهد الجديد فقد عكف على تشكيل حكومته الأولى. وكانت البداية صدور المرسوم القاضي بقبول استقالة حكومة الرئيس سامي الصلح، وتكليف النائب رشيد كرامي تشكيل الحكومة البديلة.

الثورة المضادة

ويقول جوزف أبو خليل ان مجهولين أقدموا على اختطاف الكاتب المعروف في جريدة العمل، وخصوصا نقدات أبو الحنّ التي تعدّ، فعلاً، من روائع الأدب السياسي؟

ويبدو أنها عملية ثزر من فؤاد حداد، لأنه تجزّأ وتناول بنقداته الزعيم المصري والعربي جمال عبدالناصر على أثر فوز الدكتور شارل مالك برئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغم المحاربة التي تعرّض لها ترشحه لهذا المقام. واذا صحّ أن فؤاد حدّاد لم يكن منتميا الى الكتائب، إلاّ أنه كان على تفاهم تام مع الشيخ بيار الجميّل من الناحية الفكرية والوطنية ويتمتع بثقته الكاملة من هذا القبيل. وهو في ما يقول ويكتب في العمل انما هو ينطق بلسان بيار الجميّل والكتائب. فكيف السكوت عن اختطافه وقتله؟ وما إن شاع الخبر، صباح السبت ٢٠ أيلول، حتى بدأ بيت الكتائب يضجّ بالوافدين اليه من كل المناطق، وأنا منهم بطبيعة الحال، بل أنا من جملة من كان يسمع فؤاد حداد يقول: يجب أن يقتل واحد من الاثنين كميل شمعون أو بيار الجميّل. لماذا؟ كي يحدث ما كان يجب أن يحدث في نظره، أي ثورة بالمعنى الصحيح على واقع الحال. ويساء القدر – أو ربما فؤاد حداد نفسه شاء ذلك – ان يكون قتل أبو الحن هو الصاعق الذي يشعل هذه الثورة. لقد كان ذهابه الى مكتبه في وزارة التربية قبل أوانه، وكان بالتأكيد على علم بأنه يجازف بحياته. دخلت على الشيخ بيار في مكتبه لأقول على مسمعه هذا الكلام فلم أوفّق. الحاضرون كثر، من أركان الكتائب ومن الأصدقاء، والجو جو حيرة، وكآبة، وصمت قطعه أحدهم بالقول: على اأقل اضراب عام ليوم واحد. ردّ الشيخ بيار على الفور: ليس قبل الوقوف على رأي أصحاب الشأن في الوسط التجاري. تقرر في النهاية دعوة هؤلاء الى اجتماع عام في بيت الكتائب للتشاور معهم في هذا الشأن، فموافقتهم على الاضراب لازمة، وإلاّ جاءت الخطوة فاشلة. لقد تعطّلت الأعمال شهورا، فربما كانت العودة الى تعطيلها بعد استئنافها ولو لأيام قليلة مدعاة تذمر واستياء، فضلاً عن ان السؤال يظلّ مطروحا: ماذا بعد الاضراب ليوم واحد؟

وأخيراً، تقررت الدعوة الى الاضراب العام ليوم واحد فقط، يوم الاثنين ٢٢ أيلول، وكانت التلبية شاملة، وبدل ان يكون هذا الاضراب ليوم واحد راح يتواصل في حركة اعتراض لا تخلو من الشدّة على التشكيلة الحكومية التي تمّ اعلانها يوم ٢٤ أيلول، وجاءت مؤكدة للمخاوف حيال اتجاهات الحكم الجديد وخياراته. لقد خلت التشكيلة من أي تمثيل للقوى التي ناهضت الثورة، وكانت في ما تفعله تدافع عن الشرعية وعن السيادة والاستقلال. انه انقلاب كامل لا ينقصه إلاّ البلاغ رقم واحد، الأمر الذي يعني ان ما لم تأخذه المعارضة بقوة السلاح، أخذته أو تكاد بالحيلة. ثم جاء الرئيس المكلّف رشيد كرامي ليعلن بالفم الملآن: لقد حان موعد قطف ثمار الثورة. أما الحيلة – إن جاز القول – فهي في توزير شخصيتين مرموقتين هما شارل حلو الذي كان من مؤسسي الكتائب ويوسف السودا إبن بكفيا الذي طالما فاخر بيار الجميّل بالتتلمذ على يده في النظرة الى الكيان اللبناني.

وهكذا تحوّلت حركة الاعتراض الى ثورة مضادة.