Site icon IMLebanon

خواء المسرح السياسي اللبناني!

 

لطالما كانت التركيبة السياسية اللبنانية معقّدة ومتشابكة تتداخل فيها العناصر المحلّية، من طائفية ومذهبية ومناطقية وعشائرية، مع العناصر الخارجية التي تتولّاها المحاور الإقليمية والدولية المتنازعة، والتي تتبدّل هوياتها وِفقاً للظروف، ولكنّ الثابت دائماً أنّ ثمّة قوى تمارس ضغوطاتها ونفوذها على الساحة اللبنانية من خلال أطراف محلية، إما ترتضي هذا الدور وتفاخر به، وإما أنهّا تضطرّ أن تراعيه لاعتبارات معيّنة، وتتعامل معه بشكل أو بآخر.

 

لقد شهدت هذه التركيبة، بإشكالياتها وتعقيداتها، فترات من الرخاء الظاهري الذي عبّر عن نفسه من خلال ازدهار نسبي (في المدن وليس في الأرياف والأطراف) تجسّد فيه مفهوم “لبنان الرسالة” و”ملتقى الشرق والغرب” و”سويسرا الشرق”، وسواها من العناوين والشعارات التي عكست نظرة إيجابية مفرطة بالواقع الداخلي، وأهملت عناصر الإنفجار والتوتّر التي كانت مؤهّلة لأن تتغذّى بين الحين والآخر من عوامل مختلفة.

 

ولكن، إذا كانت هذه الإشكاليات المرتبطة بطبيعة النظام السياسي، لا سيّما من الناحية الطائفية والمذهبية، تعرقل التقدّم المجتمعي والتطوّر المنشود، خصوصاً لناحية تحقيق المساواة بين المواطنين وإسقاط الحواجز التي تميّز بينهم وتجعلهم يتساوون في الحقوق والواجبات على حدّ سواء؛ إلا أنّ ثمّة مساحات وفّرها هذا النظام، على علّاته وعثراته وهشاشته، وهي مساحات الحرية في التعبير والرأي والمعتقد والصحافة التي سمحت بأن يكون متنفّساً للمنطقة العربية برمّتها.

 

إذاً، بين العثرات السياسية التي يولّدها النظام، وبين مساحات الحرية التي يوفّرها النظام إياه، ثمّة إشكالية مربكة تعكس ذاتها في أكثر المواقع حساسية، ألا وهي ضعف الدولة من حيث مركزية قرارها السياسي والدستوري والميثاقي والسيادي، وهو ما يجعل القوى السياسية، بغالبيتها الساحقة، أقوى منها فرادة أو مجتمعة.

 

المهمّ اليوم أنّ المسرح السياسي في مكان، والقرار السياسي في مكان آخر. كان القرار السياسي، مهما بلغت صعوبات التوصّل إليه، يعكس نفسه في المسرح السياسي المكوّن من مؤسّسات دستورية وسياسية: رئاسة الجمهورية، المجلس النيابي، مجلس الوزراء، ومن ثمّ في الأحزاب السياسية والصحافة وتشكيلات الرأي العام وسائر الأطر الأخرى. تتنافس القوى في تلك الأطر وتتناقش وتتصارع تحت سقوف معيّنة، مرتفعة أحياناً ومنخفضة أحياناً أخرى، وفي المحصلة النهائية، تصل الأمور إلى خواتيمها بشكل أو بآخر.

 

ما يحصل اليوم يشبه إلى حدّ بعيد ذاك المسرح القديم، فهناك من يمثّلون أدواراً رئيسية، وسواهم يمثّلون أدواراً ثانوية، وكذلك من يتولّى كتابة السيناريوات والتنسيق والإعداد. ولكنّ الفارق الجوهري أنّ المخرج تغيّر، وهو الذي بات يتحكّم وحده بكلّ تفاصيل العملية المسرحية السياسية ويفرض رأيه على الجميع من دون مشورة أو تعاون، ولو أنّه يغلّف موقفه أحياناً بابتسامات خادعة أو شعارات فارغة.

 

في نهاية المطاف، ثمّة لاعب واحد يمسك طرف الخيط في لبنان، ويقوده إلى حيث يريد، غير آبه بآراء المكوّنات الأخرى، مثبتاً في كل مرّة وعند كلّ منعطف خياراته السياسية على المستويين الاستراتيجي والمحلي على حدّ سواء، ومترجماً إياها بقرارات داخلية بعضها يضغط لإصدارها من المراجع الرسمية المختصّة (رئاسة الجمهورية، المجلس النيابي، إلخ…)، فيما لا يكترث كثيراً لكيفية إصداره قراراته الأخيرة التي تمسّ مباشرة بمشروعه أو برؤيته، وقلّما يكترث أيضاً لردود الأفعال (على قلّتها) التي قد تكون شاجبة أو مستنكرة.

 

وإذا كانت كلّ عناصر المسرح غير مؤثرة برأي المخرج، وهو يملك وحده ناصية القرار الذي يبنيه حصراً وِفق معطياته وظروفه ومصالحه؛ فإذاً نحن أمام أخطر مرحلة خواء سياسي يشهدها لبنان، عنوانها الأساسي تفريغ ديموقراطيته من مضمونها، تحطيم إقتصاده من أساسه، تحويل مساره المجتمعي من جذوره، وإعادة تركيبه من جديد وِفق موازين القوى الطاغية.

 

هل انتهى لبنان القديم؟