IMLebanon

وترسيم الحدود الأخرى؟

 

يُحكى عن ضرورة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل من أجل التنقيب عن النفط. إسرائيل ما زالت تهدّد هذا الترسيم لتسرق من حصة لبنان.

 

لكن يبدو أن الكلام تطوّر اليوم، بحسب الأخبار والمعلومات الرسمية، ليشمل أيضاً ترسيم الحدود اللبنانية كلها مع العدو من جهة ومع جار الخراب من جهة أخرى. ونظن أن المعني أساساً على الحدود الجنوبية هي مزارع شبعا التي يُعلن نظام الأسد «الثاني» أنه يعترف بأنها لبنانية لكنه لن يقدم رسمياً الاثباتات الحيثية للمجتمع الدولي إلاّ بعد انتهاء الصراع العربي – الإسرائيلي! رائع! وقد صفق لهذا الموقف المُشين حلفاء وعملاء هذا النظام. فمزارع شبعا باعتبارها «لبنانية» جزء من تبرير تسلح حزب الله«ليقاوم» المحتل و«يحرّرها»، لأن احتلال إسرائيل الجولان وجعل جيش الأسدين حراساً له، بات عادة من عادات التخاذل. وها هي أميركا وإسرائيل وروسيا تحديداً تُطالب بانسحاب كل القوات والميليشيات الإيرانية المتاخمة للحدود الجنوبية لإعادة حراستها برموش العين للأسد. فما أجمل وأروع مقاوماً يستخدم جيشه لحراسة الاحتلال. (أترى هذا ما بدأ في الجنوب وتحديداً مزارع شبعا).

 

ثم نأتي إلى الحدود الشمالية بين لبنان وسوريا، التي تحوّلت دروباً مفتوحة لإرسال المتفجرات والإرهابيين إلى لبنان، وصارت ممرات حرّة لسلاح الحزب إلى سوريا لمواجهة ثورة الشعب، وخدمة مصالح إيران، من دون موافقة الدولة اللبنانية. فهذه الحدود معترف بها عربياً ودولياً وسورياً بأنها لبنانية. لكن النظام السوري لا يرعوي عن استخدامها (من دون اتفاق مع الدولة)، للتهريب، أو لإرسال عناصر مخرّبة أو هدايا متفجرات كالتي حملها ميشال سماحة.

 

والأدهى أن حزباً يُفترض أنه يعترف بحدود بلاده وسيادة الدولة عليها، ها هو يحاول محو الحدود نفسها بين البلدين، وصولاً إلى إيران: وكأنه ينفذ بذلك ما شاع أن هذا الترسيم كما هو بدعة استعمارية. وها هو الحزب يريد أن يصحح هذا الخطأ التاريخي و«الوطني» بمقاومة من فرط عنادها، عادت من سوريا خالية الوفاض إلاّ من ذكرى الشهداء الذين ساقهم الحزب إلى هناك للانخراط في حرب تدور في بلد آخر.

 

الانتهاك

 

فالاعتراف الدولي بحدودها، لا يعني عدم انتهاكها، ومسحها عملياً (وايديولوجياً)، وكأن لم تكن! صحيح أن الجيش اللبناني يقوم بواجباته الوطنية للدفاع عن هذه الحدود، لكن الصحيح أيضاً أن الممرات التي تعبر فيها الأسلحة الثقيلة إلى الحزب كأنما باتت من الحدود السورية والإيرانية. فأي حزب هذا يقتحم سيادة وطنه، ويحطم سياجه، باستباحته بقرار خارجي، متجاوزاً الدولة والجيش وحتى قوى الأمن. وهنا بالذات تكمن مشكلة الحزب أولاً بخضوعه التام لأوامر ولاية الفقيه، وثانياً بتنكره لحقوق «شعبه» في أن تكون حدوده تحت سيطرة القوات الوطنية والحكومة ومجلس النواب والجيش.

 

الشرعية

 

فانتهاك الحدود يعني انتهاك شرعية السلطات المنتخبة وفي مقدمها رئاسة الجمهورية. فكيف يكون لكل هؤلاء مدعاة حضور إذا لم يتمكنوا من حماية حدودهم حتى من شقيقة تجرّع منها لبنان أقسى التجارب. أوليس من الطبيعي أن ترسم الدولة حدودها وتدافع عنها؟ لكن كيف لها أن تفعل ذلك إذا كان المنتهك هو من صلب أبنائها الذين يحملون بطاقات هوية لبنانية، وولدوا وترعرعوا وكبروا في رحابه. بمعنى آخر، يعرف الجميع أن تصدّي الدولة لحزب الله، من شأنه أن يؤدي إلى حرب أهلية. واستخدام العنف معه يعني تدمير البلد من دون معرفة تبعاته ولا مسؤولياته. فالمذهبية أولاً وأخيراً هي المرجعية التي ابتكرتها الأحزاب الطائفية لتحمي جنونها، وعنفها وارتباطاتها الخارجية وفسادها الداخلي.

 

وهذه الطائفية بالذات هي سلاح حزب الله الأقوى، وذريعة لإدخال كل احتلال أو وصاية على لبنان، لإنقاذ هذه الطائفة أو تلك.

 

لكن مَن قال إن مشكلة الحدود تقتصر على الترسيم مع الدول المجاورة؟ فالأزمة موجودة منذ أكثر من 150 سنة. ولكن الاختلاط الديموغرافي الطاغي في القرن العشرين بدّد العديد من الحدود الكانتونية. على أنه وأثناء حروب الآخرين على لبنان، من النظام السوري إلى منظمة التحرير وإسرائيل، أسّست الميليشيات المذهبية وجاءت بحدود كانتوناتها معها، من خلال المجازر والقتل والخطف على الهوية والقصف: تفكك الجيش وتفككت معه حدود الدولة، و«ترسمت» حدود الدويلات، التي ورثت الأسلحة والدبابات والفساد ودمرت بها بلدها.

 

إمحاء الحدود

 

وهنا بالذات أمحت الحدود الرسمية لتنصب بدلاً منها حدود «الدويلات»، فكأن الشعب اللبناني تحوّل شعوباً، وكل طائفة شعباً مستقلاً بحدود تحددها خطوط التماس. أي ترسيم كانتوناتها وخرائطها بالدم. فقد حطمت هذه الأحزاب التمازجات الديموغرافية والاجتماعية والسياسية ليعود كل إلى حدود مادية (أصلاً افتراضية)، ملموسة، لا ينسى أحد ما تمّ من أجل بنائها من عمليات تطهير دموي وتهجير قسري، للتوصل إلى مناطق «نظيفة». كل طائفة (إلى حد كبير) نظفت كانتوناتها من كل «آخر» يختلف طائفياً أو فكرياً أو ايديولوجية، يكلل كل ذلك الدمار الشامل بالمدن والقرى وإحراق المنازل وسرقتها ونهبها.

 

عندها بالذات انقسم لبنان كله جنوباً وشمالاً وساحلاً وجبلاً إلى حدود «خاصة» ذات هوية خاصة، تعلن حروباً على الأخرى. ومَن ينسى أن لبنان في تلك المرحلة المشؤومة تقاسمته 3 احتلالات ووصايات: الإسرائيلية والسورية والفلسطينية. أي كانتونات خارجية كبرى ترعى الكانتونات الصغرى وتمدّها بالمال والسلاح والموقف للاستمرار في تعميق هذه الانفصالات الجذرية. الحدود مع الخارج تكاد تكون ملغاة، ومرسمة بدماء الطوائف والخراب.

 

شرعية الميليشيات

 

وعلى هذا الأساس فرضت شرعيات الميليشيات (المدعومة من القوى الخارجية)، على المرافئ، وعلى طول الحدود، وفي المطار، وفي الدوائر الرسمية: هيكلة لدويلات كاملة الأوصاف، بزعماء ميليشيات لم يعرف لبنان مثيلاً لا لعمالتهم، ولا لوحشيتهم، ولا لفسادهم، وعندها بالذات بدأت معارك الإلغاء بين الطوائف المختلفة، بتخوينها، وعزلها ومقاطعتها، وبدأت حروب الإلغاء ضمن «الكانتونات» الواحدة، والبيئة الواحدة، وسقط فيها ألوف الضحايا، من أجل أن تتفرّد ميليشيا هذه الطائفة أو تلك بالسلطة الأحادية، والقائد الواحد، والحزب الواحد… وما زالت هذه المعارك الإلغائية موجودة حتى الآن بأدوات سياسية.

 

الطائف

 

لكن بعد اتفاق الطائف تخلّت معظم الميليشيات عن أسلحتها، وفتحت أبواب «كانتوناتها» وانخرطت أحزابها في الدولة والسلطة، ما عدا حزب الله، الذي بات يمتلك السلاح «المقاوم» وحده ويسيطر سيطرة حديدية على كانتونه المذهبي، من الضاحية الجنوبية إلى حدود لبنان الجنوبية، للاستمرار في «مواجهة» إسرائيل، مستقلاً عن أي علاقة رسمية بالدولة وكياناتها البرلمانية والحكومية والعسكرية. فقرار الحرب انتقل إلى أيدي إيران والنظام السوري وكان من نتائج ذلك حرب 2006 التي استجلب فيها الحزب إسرائيل في مواجهة كبّدت لبنان ألوف الضحايا ومليارات الدولارات. هذه الحرب، التي بدت إسرائيل وإيران هما اللتان تسيطران على الحدود لا الدولة اللبنانية ولا الجيش. حدود خارج الحدود. ودولتان واحدة عدو والأخرى احتلالية تمتلكان التحكم واستباحة الحدود الجنوبية. وهذا ما حصل على الحدود الشمالية بعد انخراط الحزب في مقاومة الثورة الشعبية السورية والدفاع عن الديكتاتور.

 

لكن السؤال في كل هذه المفارقات: أين حدودنا الدولية؟ إنها مرسّمة على الخرائط. وأين هي الخرائط؟ في جعبة النظام السوري (بعد انسحابه)، وإيران عبر ميليشياتها «اللبنانية».. إذاً، إسرائيل من جهة مزارع شبعا تحتل أرضاً «لبنانية» غير «مرسّمة»، أو معترف بها من سوريا.. وتالياً من إسرائيل: إنها لعبة خبيثة يتواطأ معها العدو ونظام الأسد، قابلة لكل المغامرات الحزبية الداخلية والصهيونية. مَن يتحكّم إذاً في هذه الحدود؛ إيران وإسرائيل. وأين الدولة اللبنانية؛ عاجزة بكل مقوّماتها على استلام خطوط التماس. فبين حدود مرسمة في الشمال اللبناني ومنتهكة، وبين حدود غير مرسّمة في البحر، يبدو لبنان أسير التناقضات والصراعات بين أطراف خارجية. إسرائيل تبدي استعدادها للتفاوض على الترسيم وتقاسم النفط والغاز (أقصد تقاسم حصة لبنان)، والدولة وإن متردّدة، قبلت هذا التفاوض. لكن الحدود مع سوريا؟ مَن يقنع حزب الله بضرورة تولي القوة العسكرية هذه المهمة؟ ربما قد ينكر الحزب انتهاكه لهذه الحدود من باب المناورة أو التعمية «وأهلاً» بالجيش والدولة والسلطة لتدخل وتسيطر على أي نقطة حتى من الكانتون الحزبي. لكن هذا أيضاً تضليل واضح لمَن خبر وعرف ممارسات الحزب، وهيمنته على «مناطقه»، وتجنيد «شبابه» لحروب (ليس ضدّ إسرائيل) بل ضدّ العرب. فحزب الله، يرسل أسلحته ومقاتليه إلى اليمن والعراق وسواهما، ويحتاج إلى حدود يعترف بها وحده.

 

ماذا إذاً؟

 

في تصوّرنا أن الحدود اللبنانية الجنوبية الشمالية مرسّمة، لكن ترسيماً وهمياً، على الخرائط والورق وأقبية المجتمع الدولي، أما عملياً، فهذه المسألة لن تحل وشيكاً أو بعيداً إلاّ بانخراط الحزب في الدولة، وتسليم أسلحته إلى السلطة، واعتماده على العمل السياسي بلا أسلحة ولا ترهيب ولا مغامرات.

 

في انتظار ذلك، سيبقى كل شيء على حاله، من جهة الدولة العاجزة عن استعادة حدودها بالقوة، أو بالتوافق.

 

ونظن أن انتظاراتنا تنتمي إلى «انتطار عودو» الذي قد يأتي ولا يأتي.