ماذا يعني مصطلح «البيارتة» في ذاكرة الأكراد؟ لو طرحت هذا السؤال في «حوش الكراد» قبل أوّل من أمس، لكانوا سيجيبون ربما بـ«حكاية الجامع» الذي مُنعت فيه عنهم المساعدة لأنهم ليسوا «بيارتة». أما اليوم، وبعد إعلان الرئيس سعد الحريري «لائحة البيارتة» التي ستخوض الانتخابات البلدية، فقد وجدوا فيها ما يمسّ غربتهم: اسم عدنان عميرات. فماذا سيغيّر هذا الوجود في الحكاية؟
رويداً رويداً، يتسرّب الخبر إلى «حوش الكراد» في زقاق البلاط. لائحة «البيارتة» (التي أُعلنت أول من أمس من منزل الرئيس سعد الحريري في وادي أبو جميل) حجزت بين مقاعدها واحداً للكردي عدنان عميرات. نزل الخبر بارداً على قلوب سكّان الحوش العتيق. للمرّة الأولى، يشعر هؤلاء بأنّهم محسوبون على «البيارتة». ربما ينسيهم ما «تفضّل به علينا الشيخ سعد» ــــ كما يقولون ــــ الحكاية التي يتداولها سكان زواريب الحي «المقيم» في الزقاق منذ ما يقارب الستين عاماً، والتي تقول إنّهم ذات يوم من هجرتهم الأولى قصدوا أحد المساجد لطلب «كرتونة إعاشة»، فكان الردّ: «هول مش إلكن، هول لأهل بيروت».
قد تكون هذه المرّة الأولى التي سيجرّب فيها أبناء الحوش، وهو أكبر «تجمّع» للأكراد في بيروت، النزول إلى صناديق الاقتراع لانتخاب لائحة «البيارتة» لأنّ فيها كرديّاً. بشرى، المقيمة في الحيّ منذ نحو ثلاثين عاماً، رفضت سابقاً أن تعطي بطاقة هويتها وهويات الناخبين المفترضين من العائلة لمندوبي المرشحين. لكنها ستفعلها هذه المرّة «لأنّو لازم نكون متكاتفين من أجل عدنان». لكن، من هو عدنان؟ لا تعرف بشرى، ولا يهمها في الأصل. المهمّ أنّه «كردي ابن كردي… ع ريحة الريحة نحن معه».
قبل إعلان اللائحة التي ضمت، للمرة الأولى، «كردي ابن كردي»، لم يكن معظم أبناء حيّ الأكراد يعرفون من هو «المهندس». كلّ ما يعرفونه أنّه من آل عميرات ويسكن في «الخارج». والخارج هنا ليس ألمانيا التي هاجر إليها معظم أبناء العائلات الكرديّة، وإنما خارج باب الحوش، وخارج الأزقّة الضيقة والبيوت المشرّعة على فقرها، في المنطقة التي كانت تؤوي الأغنياء الهاربين إلى ضفاف المدينة الصاخبة.
هناك، في الحوش الذي لم يبق فيه إلا عشرات العائلات الكردّية، «ريّش» الأبناء وهاجروا، ومعظمهم يقطنون في ألمانيا. لم يتركوا إلا كباراً في السنّ لن يجدوا ضالّتهم في بلاد الاغتراب، ونسوة متفرغات لمن بقي هنا. في الصباح الباكر، يهجر العمّال حيّهم، فيما تبقى النساء اللواتي قسّمن حياتهنّ على توقيت عودتهم. يهربن في النهار إلى مداخل البيوت التي تتآكلها الظلمة، ويرتشفن القهوة.
أمس، كانت الجلسة عند وداد، وكان النقاش عن الانتخابات وعدنان عميرات. تخاف النسوة الثلاث المجتمعات من أن يكون «ترشيح عميرات بس منظر، إنّو شوفوا حطينالكن كردي». يخشين عليه من «التشطيب»، لأنّ «البيارتة ربما لن يقبلوا بأن يأخذ كردي حصّتهم». تقول إحداهنّ: «التاريخ يشهد. في الانتخابات البلدية السابقة ترشّح توفيق الكردي. يومها كنت مندوبة له وجمعت له أصواتاً كثيرة، ولكن وقت الفرز تبخّرت الأصوات في المكان الذي كنت فيه. وين راحوا؟ ما حدا بيعرف». ألستم «سنّة» ومحسوبين على «البيارتة»؟ نسأل، فتجيب إحداهنّ «كنا. أما اليوم فلسنا محسوبين على نملة». تسترجع أيّام «ما كنّا محسوبين» أيّام الرئيس رفيق الحريري «عندما كانت شاحنة المساعدات تتوقف عند باب الحي، كانت تنكات زيت الزيتون وكراتين الإعاشة بتشهد».
سينتخب الكرد «لائحة البيارتة» كرمى لعميرات. ولو لم يبادر الرئيس سعد الحريري الى وضع كرديّ على لائحته «لما انتخبنا أحداً، لأن ما طالعلنا شي». يأمل هؤلاء «تزفيت الحي» في حال وصول عميرات إلى المجلس البلدي، وإن كنّ في سرّهنّ يعرفن «بأننا لن نحصّل شيء، ربما عندما يصل ينسى أنّه كردي». تتساءل إحداهن «منذ ثلاث دورات انتخابية، ينجح لنا مختاران، ماذا فعلا؟». تجيبها الأخريات «لا شيء، ولكن علينا أن نبقى متكاتفين رغم ذلك».
على مقربة من الحي، الذي طلاه أبناؤه بالأزرق من أجل الحريري الأب «أيّام العز»، مقر جمعية الأرز الكردية الرياضيّة والثقافية. هناك، لم تعد توصد الأبواب ليلاً، منذ اجتماع «القوى الكردية والماردلية اللبنانية» مع الحريري قبل أيّام. صار الكلّ «شغّالاً»، منذ «تسمية» الحريري لمرشّحهم. زوار يدخلون وآخرون يخرجون ولقاءات تعقد لتحديد الزيارات التي سيقوم بها المرشّح للناخبين الأكراد، وهم يعدّون بحسب علي الشيخ «بحدود 27 ألف ناخب». لكن هذا الرقم «المترف» ليس هو نفسه في لوائح الشطب التي يخمّن أنها «بحدود 12 ألفاً»، وهو يعوّل على المغتربين الذين قد يتحمّسون للمجيء، وخصوصاً مغتربي ألمانيا.
ولئن كان زوار المقر يعتبرون أنّ «المقعد البلدي هو حقّنا»، إلا أنّهم في الوقت نفسه «يشكرون» سعد الحريري على تلك «اللفتة». والشكر نابع من أنّ «الترشّح في لائحة الحريري سيأتينا بالمقعد لا محالة، فيما الترشّح في وجهها لا يجدي نفعاً». والأمثلة على ذلك الترشيحات السابقة المنفردة أو في اللوائح المضادة والتي لم تكن «تجلب حتى أصوات الأكراد». لم تثبت تلك الترشيحات أنها قادرة على الإتيان بعضو بلدي، وحتى العلاقات التي نسجها الأكراد مع محيطهم لم تؤتِ أُكُلَها، لا مع حزب الله «الذي لم يكن قادراً على استثمار هذه العلاقة بسبب محسوبيتهم على السنة، ولن يعطيهم من حصته البلدية الضئيلة أصلاً، ولا من الأحباش الذين ينتمي إليهم معظم الأكراد وخصوصاً المغتربين، لصعوبة مواجهة تحالفات آل الحريري»، يقول أحد مخاتير المنطقة.
مواجهة «المحدلة» صعب، لا بل مستحيل، علماً بأنّ الشاكرين لـ«عطف» الحريري هم أنفسهم من يتحدّثون عن مأزقه الذي جلب لهم معه الحظ. يشير هؤلاء الى «الوضع الصعب لتيار المستقبل، ما دفع بالرئيس الحريري لضمّنا إلى لائحته والانفتاح على حزب الحوار (الذي يرأسه فؤاد مخزومي) وإرضاء آل عيتاني، «ليشقل» وضع التيار». يعني «30 ألف صوت من بيت العيتاني بينفعوا، و5 آلاف من هنا و10 آلاف من هناك بيعملوا. وهذا امتحان بالنسبة إلينا».
مع ذلك، ثمة من رفض الركوب في «الجرافة» ومسايرة تيار المستقبل، ومنهم «الأحباش» الذين يقفون بعيداً عن هذه الضفة، و«المقاومون»، على حدّ تعبير رئيس حزب الرزكاري محمود فتاح أحمد. يعترض هؤلاء على طريقة «تعيين» تيار المستقبل للكردي الوحيد «حيث فرض الاسم من دون أن يشاورنا أحد. ما فعله الحريري هو تسيير مصلحته، اختار كردياً لإرضائنا، ولكن ليبقى تحت سقفه»، يقول أحمد. هنا، في هذا الطرف، ليس المهم «تعييننا أعضاء في البلدية. طريقنا طريق مقاومة ضد الإرهاب من العراق إلى سوريا إلى كل مكان». يحسم هؤلاء «نحن مع المقاومة»، لكن من دون أن يفرضوا خيارهم على «من يريد انتخاب عميرات، فنحن لن نحرج الناس، ومن يريد أن ينتخب فلينتخب»، يقول أحمد.
يعرف هؤلاء أنّ كثيرين سينتخبون لائحة «البيارتة». لا لأجل عميرات «الباش مهندس»، وإنما لأجل ما يسمّونه «العصب الكردي». العصب الوحيد المتبقي لهم لمواجهة غربتهم.