بعثر التفجير الإرهابي «عجقة» الناس الذين كانوا حتى تلك اللحظة يعيشون تفاصيل يومياتهم المعتادة في برج البراجنة. توالت الأخبار العاجلة. انفجار أم انفجاران؟ انتحاريان أم أكثر؟ هلع عمّ الضاحية الجنوبية لبيروت وشوارع العاصمة. أبواق سيارات الإسعاف تصدح في كل مكان. مناشدات للتبرّع بالدم في معظم المستشفيات. إرباك في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. المشهد مرعب. الصور مريعة. رغيف فرن «مكي»، قوت ابناء الشارع المنكوب والجوار، صار فجأة» مغمّسا» بالدم. رغيف أحمر وحّد آلام فقراء البرج ومدينة «حلفايا» في حماة، هناك حيث سقط برميل متفجّر على أحد أفرانها، فقضى الأطفال الواقفون في الطابور، جياعاً، قبل تذوّق ملح الرغيف «الحاف». انهارت الجدران بين مناطق العاصمة واحيائها وبين شطري الوطن ، وكان لا بدّ ان يتألق الحس الوطني. توحّد الإعلام كما الساسة مستنكرين هول الجريمة. الوقت ليس وقت مناكفات ومزايدات وتجاذبات واتهامات. دماء الفقراء تسيل في منطقة لبنانية.
عقب تشكيل الحكومة، حظي لبنان بمظلة دولية حمته من تبعات النار المحيطة. منذ تشكيلها لم يشهد لبنان اي تفجير من النوع الذي شهدته الضاحية مساء أمس الأول. استهدف الارهاب هذه المرة أكثر أماكن الضاحية ازدحاماً، حيث يسكن الفقراء من الشيعة والسنة اللبنانيين والفلسطينيين، بهدف إيقاع أكبر عدد من الضحايا. تنظيم «داعش» الإرهابي تبنى العملية. هي المرة الأولى التي يذكر التنظيم في بياناته جنسيات الانتحاريين! «3 فلسطينيين»، يقول البيان. لماذا ذكر «داعش» جنسيات الانتحاريين؟ ربما أراد ان تقع الفتنة اللبنانية – الفلسطينية والشيعية -السنّية، فتصل الى مستوى الاطاحة بالحد الادنى من الاستقرار المتبقي. هذا فضلاً عن ضرب تسوية الرياض التي أراحت الجو السياسي المشحون، وأدت الى مشاركة معظم الكتل النيابية في الجلسة التشريعية مساء امس الاول، والتي أوحت بأنها قد تفتح الطريق على تسويات في ملفات اخرى، خاصة بعد ان دعا الامين العام لـ«حزب الله» السيّد نصرالله الى تسوية سياسية شاملة.
يجوز لـ«حزب الله» ان يسترجع شريط اللحظات الاولى من التفجير. ما من حزب او تيار او حركة سياسية لم يلتف حول معاناة فقراء البرج. لا مجال لوصف ما اعلنته القوى السياسية كافة، ومنها «14 آذار»، الرافضة لتدخّل «حزب الله» في سوريا، بـ«المزايدات». فهذه القوى، ومنذ العام 2005، كانت تقدّم التنازل تلو الآخر حفاظاً على استقرار لبنان الهش. المشهد الجامع لن يجبر «حزب الله» على مراجعة حساباته؟ ربما، لكن لا بد له ان يقرأ، بالحد الادنى، تعليق احد الدبلوماسيين على التفجير الارهابي، اذ قال، «إن دولاً بأكملها دخلت في الحرب على ما يسمى «الارهاب»، ماذا يشكّل «حزب الله» مقارنة بهذه الدول»؟ وختم: «ربما يتوجب على الحزب ان يُخرج بيئته ولبنان من الاستنزاف في حروب الامبراطوريات الكبرى». او ربما يتوجب على المعنيين في الحزب الاستماع الى شهادة احد المواطنين في الضاحية، الذي قال على الهواء مباشرة، «بدي فل من الضاحية، واذا بقدر رح فل من البلد، الموت بالبحر اشرفلي». سيكرر البعض ما قاله إعلام «حزب الله» عقب التفجير، «ان المعركة مع القتلة المتسترين باسم الحرية مستمرة»! لكن هل يتوهم اصحاب هذا القول ان الانخراط في جيل جديد من حروب الوكالة والحروب على ارض الآخرين سيحمي لبنان في زمن الابادة والتهجير؟ هذا النظام السوري بجبروته، فقد السيطرة على سوريا، وسرعان ما محت التنظيمات الارهابية حدوده مع العراق! وها هو العراق الذي تلقى حكومته دعماً أميركياً – ايرانياً مشتركاً، فقد السيطرة على اجزاء واسعة من الموصل والرمادي، وبات يخوض حروب الكر والفر والتهجير منذ شهور. ليس لبنان اقوى من كل هؤلاء، ولا مناعة تركيبته الداخلية تسمح بالمجازفة بما تبقى له من أمل بعدم السقوط.
آلام اهالي البرج خبرها السوريون والعراقيون والعراسلة والطرابلسيون. الجميع عانى الارهاب نفسه.منهم من قضى بإرهاب الاحزمة الناسفة، ومنهم من قضى بإرهاب براميل الحديد والبارود والنار. ووسط حفلة الجنون هذه، يحلم اللبنانيون بأن تجترح لهم الدولة، بمؤسساتها وأحزابها وحركاتها وتياراتها ومجتمعها المدني، حلاً، لئلا يصدقوا أن البحر بات ملجأهم الوحيد. ولئلا يصل العالم الى زمن يتصالح فيه مع واقعه كما تصالح مع مجازر الكيميائي في الاقليم. هذا العالم الذي لا يجيد الا البكاء على الضحايا، فيما يعد التسويات على الضفة الاخرى. وبعد ان تنتهي الحروب، لا يبقى امام اهالي ضحايا الصراعات سوى البكاء على أضرحة احبائهم وأمام صورهم المعلقة على حيطان بيوتهم الباردة .