«الإنتفاضة» العونية لن تفجِّر البلد، لا حجماً ولا نوعاً. فالوقت لم يحن بعد للتفجير. وكلّ شيء ممسوكٌ في لبنان، من السياسيين إلى الشارع. لكنّ يوماً سيأتي وينفجر فيه الوضع اللبناني. هل هو قريبٌ أم بعيد؟ الأمر منوطٌ بسرعة المعارك ورسم الخرائطِ في سوريا.
الآن جاء الدور لدفع المسيحيين إلى الاحتقان ضدّ النظام، وخصوصاً ضدّ السنّة، الأكثر تمسُّكاً بالنظام. والواضح أنّ الاحتقان المسيحي العام تجاه الشركاء جميعاً، السنّة والشيعة والدروز، والمستمر منذ مرحلة الوصاية السورية حتى العام 2005 وما بعده، سيجري استثماره في مكانٍ ما، عندما تحينُ ساعةُ الاستثمار.
قبل ذلك، بأسابيع وأشهر وسنوات، أيْ منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري و7 أيار 2008 وما بعده، جرى حَقْنُ السنَّة في لبنان مذهبياً. والأرجح أنّ هناك استثماراً لهذا الحَقْنِ، خصوصاً في المراحل المقبلة.
وأما الشيعة فيتمتعون منذ مطلع التسعينات بدينامية متصاعدة. وباتت درجة احتقانهم مذهبيّاً عالية جداً بعد انتقال «حزب الله» من المواجهة مع إسرائيل إلى المواجهة في سوريا. فهناك يُهدَر الدمُ الشيعي في نزاعٍ مرير جوهرُه مذهبي.
إذاً، الطوائفُ في لبنان تتعرّض لعمليات حَقنٍ، ينفِّذها البعض ضدّ البعض الآخر، بقصدٍ منه أو من دون قصد، مداورةً أو في آن معاً. ويخشى كثيرون أن تتصادمَ الطوائفُ المحتقنة، في لحظة معيّنة، بعد نضوج الحالة السورية.
فعندما تصبحُ سوريا «دولة سابقة»، وهي على قاب قوسَيْن أو أدنى من ذلك، سيكون لبنان كذلك «دولة سابقة». وعندما يرهن بعض الطوائف في لبنان مصيره بمصير «إخوانه» في سوريا، ستندفع الطوائفُ الأخرى جميعاً للبحث عن مصيرِها، ويصبح لزاماً «تغيير» لبنان، ربطاً بـ»تغيير» سوريا. وهنا يبرز موقعُ المسيحيين في لبنان، والدروز أيضاً، وسطَ الانخراط الشيعي- السنّي في الحرب السورية.
عندما انتهت الحربُ في لبنان، في 13 تشرين الأول 1990، بهزيمة المسيحيين عسكرياً وسياسياً، كان هؤلاء الأكثر واقعية في قبول الحلول السياسية. فالمهزوم تكون مطالبُه متواضعة، ويكون مستعداً للتسويات.
لكنّ القوى الداخلية المنتصرة آنذاك، مدعومةً بالقوى الإقليمية الراعية لها، إستثمرت الضعفَ المسيحي، وتواطأ معظمُها مع سوريا لاقتسام الحصة المسيحية في النظام. ومع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، اضطّلع المسيحيون بدورٍ أساسي في حدث 14 آذار وخروج سوريا. لكنهم اصطدموا بأنّ القوى المستفيدة من إضعافهم لن تتخلّى عن مكاسبها المحقَّقة بقوّة سوريا.
اليوم، بعد عشر سنوات، يرفع المسيحيون جميعاً عناوينَ متشابهة. وإذا كان العماد ميشال عون هو المنتفض وحيداً في وجه «النظام»، فإنّ خصومه المسيحيين وحلفاءه على السواء يشاركونه الشكوى من «التهميش المسيحي». وليس الحديث المسيحي المتزايد عن الفدرالية مجرد صدفة.
والشعاراتُ العونية الأخيرة حادّة جداً: فرْطُ الصيغة، إتهام «المستقبل» بـ»الداعشية السياسية»، تذكيره بتسليم مفاتيح العاصمة إلى غازي كنعان، العودة إلى «الأورثوذكسي»، لا انتخابات رئاسية قبل الانتخابات النيابية، الانتخابات الرئاسية من الشعب، وطبعاً الفدرالية.
وهذا الشعور المسيحي المكبوت والشامل غالبية القوى بات خطراً. ويوازيه الشعور السنّي بالظلم والاستهداف منذ ما قبل اغتيال الحريري وحتى حادث السعديات، مروراً بعرسال وطرابلس ومحطات كثيرة:
لماذا 7 أيار 2008، ولماذا استثارة السنّة بشريط التعذيب في سجن رومية، ولماذا السعديات، ولماذا إشعارهم بأنّ عرسال ستتعرض للاقتحام، ولماذا يلاحَق السنّة المتورِّطون في الحرب السورية ولا يلاحَق «حزب الله»؟ ولماذا لا يتمّ تسليم المتهمين في ملف الحريري إلى المحكمة الدولية؟
هذه الأسئلة وسواها الكثير تخلق احتقاناً خطراً في الطائفة السنّية. وليس صحيحاً أنّ هناك فئاتٍ سنّية تصطف إلى جانب «الحزب» في أيّ محطة تستهدف الطائفة. فالتطرُّف يأخذ الجميع إلى فرز طائفي ومذهبي، لا سياسي. ولذلك، سقطت نهائياً ثنائية 8 و14 آذار.
وأما الشيعة، فيتمسكون بنظريتهم القائلة: لو لم نحارب في سوريا، ونستقوي بسلاحنا، لسقط الأسد وتعرَّض وجودُنا في لبنان للخطر. ولذلك، لا خيار لنا سوى المواجهة.
وهكذا، يصبح لكلِّ طائفة تبريرها للاحتقان الذاتي وحقن الآخرين! وهذا الاحتقان سيكون الوقود الذي سيحتاج إليه الصراع في لبنان، عندما تنضج المتغيرات السورية. والاحتقاناتُ المتبادَلة ستتكفَّل بإسقاط الصيغة اللبنانية الحالية، لكنها لا تسمح ببناء صيغة بديلة، بل بصراعات لا تنتهي.
ولذلك، سيكون من مصلحة القوى اللبنانية، إذا كانت تريد بناء صيغة لبنانية آمنة، أن توقِفَ لعبة الحَقْنِ المتبادَل. ومن المثير أن تقع المواجهة اليوم بين الطرفين المسيحي والسنّي، فيما تنفيس الاحتقان المسيحي- وكذلك الاحتقان السنّي- هو الأسهل، لأنّ عناصر كلٍّ منهما محض لبنانية داخلية، ولا ترتبط بالصراع الإقليمي. فهل هناك فرصة لحوار حقيقي أم يكون الجميع ضحية الحالة السورية الداهمة؟