IMLebanon

وسائر الشرق

قال الاستاذ فريد مكاري في “الحوار” الحالي، من حوارات اللبنانيين وغجرياتهم المترحّلة من بلد إلى بلد، إن المسيحيين لم يكونوا مُمَثَّلين جميعاً في مؤتمر بكركي. يقصد الروم، والروم الكاثوليك، والموارنة المستقلين، والمسيحيين العلمانيين، أو المدنيين، ورافضي التكتلات الطائفية، والخارجين على حنق المذاهب.

ولا ندري لماذا حَشرت بكركي نفسها ذات يوم في حصر الترشّح للرئاسة بأربعة سياسيين لا يجمع بينهم سوى النزاع الدائم، الذي اختلط أحياناً بالدماء. أنهار منها. لا شك طبعاً في نيات البطريرك الراعي ومقاصده ورؤيته إلى الدولة، وتالياً، تلهّفه إلى عودة أبواب بعبدا، قبل أن تُحاك من حولها خيوط العنكبوت. 

لكن مراعاة المشاعر كانت تقتضي أن تكون قناطر بكركي أعلى وأوسع من ضِيق الخيار. فالزعماء الذين دعوا إلى ملَكوت بكركي يرئسون أحزاباً وتيارات لا وجود حقيقياً فيها لغير الموارنة. أمس واليوم، والغد لله وحده، إلاّ إذا عيّن البعض بديلاً منه. أي منه تعالى.

ربما كان سبب غياب “الآخرين” اتساع الشعور المدني عندهم، وابتعادهم عن الثارات التاريخية ورفضهم التاريخي لسلوك وجود مراجعهم الأنطاكية خارج لبنان، وعلاقاتهم القديمة بمسيحيي الشرق، الذين قرّر الموارنة الآن ضمّهم إلى المحصول، بعدما لم يبقَ منهم في دياره أحد نتحدّث معه، أو نتحدّث عنه، أو ندعو له بحفظ الأرض.

في القمّة الإسلامية الأولى، في لاهور، ثم في القمّة الإسلامية في الطائف، مثّل مسيحيي الشرق وحرّاس كنيسة القيامة وورَثة بيزنطيا، البطريرك الياس الرابع، الذي ضمّه الرئيس تقي الدين الصلح إلى وفده. وكان إلى جانبه يومها غسان تويني. وفي الطائف، على مشارف مكة، مثّل مسيحيي الشرق، الياس سركيس، والياس الرابع، وأسقف العربية جورج خضر، كل منهم قيمته في المسيحية، قيمته في الإسلام.

تذكّرنا مسيحيي الشرق، بعد فوات الأوان. وقد يفوت الأوان على مَن بقي منهم هنا، ممن لم يهجّره أو يتسبّب بتهجيره، أبطال الحروب المسيحية. مرة حروب الدبابات، ومرة الحروب الباردة بالكلمات الفجّة، وحروب البلكونات وتعابيرها وابتذالها ولا مسؤوليتها ولا مبالاتها. لذلك، يتحاشى الكثيرون الخروج إلى شرُفاتهم، لئلا تزداد قناعاتهم بفضائل الهجرة والابتعاد.

يريد فريد مكاري أن يقول إن المسيحيين الآخرين، الثانويين الهامشيين، قد ملّوا صوت العزف على ربابة واحدة. أربعة زعماء ليس بينهم ممثّل للكتلة الوطنية أو الكتلة الدستورية أو الوطنيين الأحرار. أربعة مرشحين ليس بينهم جان عبيد، وإدمون رزق، وبطرس حرب، وروبير غانم. أربع مدارس ليس بينها فؤاد بطرس وغسان تويني ومانويل يونس وفؤاد شهاب.

مَن هم مسيحيو الشرق؟ دعونا لا نحقّرهم وهم في مأساة الهجرة الأخيرة. هم فارس الخوري، والشيخ بشارة الخوري، والدكتور جورج حنا، ومكرم عبيد، وجبران تويني، وجبران خليل، وكلوفيس مقصود، وجبران وأمين الريحاني، وقسطنطين زريق، وجورج أنطونيوس، وجرجي زيدان، وأنطون الجميّل، وسليم تقلا، ومي زيادة، وأنطون سعادة، ونجيب عازوري، وميشال عفلق، وفؤاد سليمان، وأيوب ثابت، وأنطوان غطاس كرم، وبولس بطرس المعوشي، ووديع الصيداوي، وخليل رامز سركيس، والأب أنسطاس الكرملي والأب لويس شيخو والأب سليم عبو، وحسيب الصباغ، وسعيد خوري، وإميل بستاني.

هؤلاء الذين ملأوا الشرق فكراً ورؤية ونزاهة ونظافة وعملاً ورقيّاً ورفعة وحباً. أقلّ ما نستطيع أن نفعله تجاههم هو ألاّ نحوّلهم إلى فرع في حزب، أو إلى هتّافين في جنازة الأمة التي لا تُجيد سوى الغناء على مقابرها. ليس بالنشيد الجنائزي الذي يليق بتاريخها ومجدها وعظَمة حضاراتها، وإنما بعزْف منفرد على ربابة ذات وتر واحد يحزّ في النفس الحزينة حزّاً. ما أفظع الخداع. والوقاحة مذلّة الشعوب الكريمة.

يحزّ في نفس فريد مكاري، ومَن مثله من مسيحيين، أن يرى نفسه في قاعة الحوار صوتاً بلا أثر. وأن يكتشف، وهو في الطريق إلى القاعة، أن الطرق مليئة بلافتات مكتوبة بأحرف عربية وسفهٍ غريب. ربما كان الأفضل لبكركي أن تستبق انتخابات الرئاسة، أو حتى هذا الفصل من حوار اللبنانيين، بلقاء لممثّلي سائر المسيحيين إن لم يكن سائر اللبنانيين.

سوف نكون أكثر اطمئناناً وسكينة إذا كان بين الحضور المطران الياس عودة. أو الدكتور غسان سلامة. أو الدكتور كرم كرم. أو الأستاذ عصام فارس. أو الوزير الياس سكاف. فثمة ما يفيض من الموارنة، لكن بكركي قليلة فيهم. والذين كانوا يزعمون حراسة الدستور يريدون حرقه قبل وأده لئلا يقوم من بين الرماد كعادته. يريدون لبنان بالتعيين، يعبّر عن حقيقة الحجم الذي آل إليه: قائمقامية تبلّدت عروقها على رضى المتصرّف. أيّاً يكن.

حقوق المسيحيين ليست عند المسلمين، بل عند الذين أهرقوها من المسيحيين. وقبل أن نحمي حقوق “مسيحيي الشرق” في هذه المسخرة الاحتفالية الكالحة، فلنبحث أين هي بقايا مسيحيي لبنان، وأين هو وجودهم، وأين هو حضورهم الإداري خارج الحقائب الوزارية، وفي أي دائرة من الدولة لهم اعتبارهم، وأين لم يُمحَ وجودهم بعد، وفي أي محفل ثقافي أو في أي جامعة تاريخية لا يزال لقرارهم معنى أو هيبة.

فليتطلع السادة في المرايا (مرايا الحقيقة – لا الزجاج المكبِّر والخادع) ليروا أن “مسيحيي الشرق” انتهوا يوم انتهى مسيحيو لبنان. أكلوا يوم أُكل الثور الأبيض. أُعطي لبنان أن يكون برئاسة مسيحية من أجل أن يكون جزءاً من محيطه الطبيعي. لا ممراً ولا مقراً، ولكن جسراً بين حضارات الشرق والغرب، تحافظ أدياره على العربية من الهجانة، ويضع لغويّوه قواميسها ويبزّ إبرهيم اليازجي في “مجمَع البحرين” ألفية ابن مالك.

هؤلاء هم “المسيحيون العرب”، لا حُدَثاء العروبة. إميل البستاني الذي ذهب في الأربعينات من فلسطين إلى الخليج يبني عمارات أولى في الرمال. وحسيب الصبّاغ وسعيد خوري في اليمن والجزيرة. وبعدهم نعمة طعمة وفؤاد رزق وجورج زاخم.

في الإسلام إن الخطيئة الكبرى هي التكبّر. عندما تحدّى إبليس رغبة الله. وفيما نحمي نحن هنا “مسيحيي الشرق” يجول فرنسيس الكاهن في كوبا وأميركا داعياً القوى الكبرى إلى الدِعة. يقول كاتب سيرته(1) إن روايته المفضّلة هي “مخطوبة” لأليساندرو مانزوني، التي يقول فيها كاردينال لأحد الكهنة: “كان يجب أن تحبّ يا بُني. أن تحبّ وأن تتضرّع. فعندئذٍ كنت سترى أن قوى التكبّر لها قوة التهديد والجرح، ولكن ليس لها سلطة القيادة”. الجرح والتهديد.

لا يطيق البابا الساحر المجادلات السفسطائية. يحبّ أن تشمّ عرق الحياة الحقيقية. لذلك لا “يدرس” حياة الفقر، بل يعيشها. “ما تحتاج إليه الكنيسة اليوم هو لأْم الجراح وتدفئة قلوب المؤمنين. إنني أرى القداسة في شعوب الله، هذه القداسة اليومية في الصبر والأَناة. المرأة التي تربّي أطفالها. الرجل الذي يعمل ليحمل الخبز إلى المنزل. المرضى والكهَنة العجائز الذين فيهم جروح كثيرة، لكن ابتسامة وادعة تملأ وجوههم”. الغضب من الشيطان.

مشكلة الذين يخوضون “معارك” انتخابية عندنا أنهم يفوزون من بيوتهم. لا فكرة لديهم عن عرَق الأمهات وعوَز الآباء. لا تستطيع أن ترى وعورة الحياة على الوجوه. لا تستطيع أن تسمع الذين لا يئنّون من اليأس والقهر والشنشطة التي تُفرض عليهم، لأن الألم في المسيحية عيْب. وخصوصاً المسيحية المشرقية التي هاجرت من سوريا والعراق قبل ظهور “داعش” بزمن طويل. عندما تحاربَ مسيحيو لبنان على الهياكل العظمية، أدرك “مسيحيو الشرق” أن البلد الذي كان علامة على وجودهم بات علامة على انقضائهم.

المجموعة الأخيرة من “مقال الأربعاء”، دار “النهار”، حملت عنوان “انقضاء الشرق”. وقد تساءل كثيرون: أليس في ذلك مبالغة كبرى؟ أرجِّح أن أحداً لا يطرح السؤال الآن. لم ينقضِ الشرق من الخارج، بل من الداخل كعادته. والمسيحيون ضحايا هامشية في هذا الأتون. ضحايا سياسييهم وعاداتهم. في رواية أليساندرو مانزوني يقول الكاردينال للكاهن: انظر يا بُنيّ كيف تنقضي الأشياء وتتساوى الأشلاء، ويعود الجميع صفّاً واحداً إلى عفرة الغبار!

ذهب فرنسيس إلى الولايات المتحدة وجزيرة آل كاسترو ومعه سيارته: فيات L 500. والـ L ليست ترَفاً. مجرد توسعة من أجل حجمه الأبَوي وقلبه الوديع وصدره الوسيع مثل صدر الأسيزي. التلميذ الثالث عشر.