في بداية السبعينات ومع صعود الثورة الفلسطينية التي أخذت على عاتقها المواجهة مع إسرائيل بعد سقوط الأنظمة العربية وجيوشها خلال حرب 1967، تساكنت في لبنان قوتان: الجمهورية اللبنانية، بقيادة مارونية صلبة ومؤسسات دستورية وشرعية، تمثلت بمجلس النواب والحكومة والجيش، فضلاً عن شخص رئيس البلاد،
والثورة الفلسطينية المسلّحة، التي تحالفت مع قوى الإعتراض اللبناني بزعامة الحركة الوطنية، والتي تعاظم نفوذُها بالإمساك بمفاصل الأمور بعد اعتداء إسرائيل على مطار بيروت في 1968، وهزيمة الشهابية في انتخابات 1968، واتفاق القاهرة في 1969، وانتخاب سليمان فرنجية في العام 1970، إضافة إلى وهج الحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط الذي ربط الريف مع المدينة من خلال برنامج مرحلي، وسلوك جذّاب لمعظم جيل الشباب اللبناني والفلسطيني والعربي.
سرعان ما أدّت هذه المساكنة بين الجمهورية اللبنانية و»ظاهرة الشعارات الثورية»، إلى انهيار الدولة الشرعية لصالح الدويلة تحت وطأة الاتهام الواضح والصريح للموارنة بكلّ ما آلت إليه ظروف الدولة العاجزة في العام 1975؛ فكان الفساد – «مارونياً»، وسوء إدارة الدولة – «مارونياً»، وتهميش المسلمين المطالبين بحقوق المساواة مع المسيحيين – «مارونياً»، وعدم تفهّم قضية فلسطين ومتطلباتها كما يجب – «مارونياً» أيضاً و…
وما كان من الموارنة إلّا أن أداروا ظهرهم للإنتقادات الموجَهة إليهم من خصومهم وانتفضوا تحت عنوان «الدفاع عن الشرعية»، في مواجهة ما اعتبروه حركة إنقلابية يقودها كمال جنبلاط وأبو عمار «تهدف إلى تحقيق غلبة إسلامية على الدولة اللبنانية».
يقول كارل ماركس إنّ التاريخ لا يعيد نفسه، لأنّ المرة الأولى تكون «تراجيديا» أما الثانية فتكون «كوميديا». أخشى أنّ ما نعيشه اليوم يشابه الذي عشناه قبل اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975.
فاليوم، وصلت عملية المساكنة بين الدولة اللبنانية وسلاح إيران غير الشرعي في لبنان إلى نهاياتها بعد اغتيال الرئيس الحريري في العام 2005، وحرب تموز التي تفرّد بقرارها «حزب الله» وحمّل أعباءها جميعَ اللبنانيين في العام 2006، و7 أيار الـ 2008، وشروط اتفاق الدوحة على حساب اتفاق الطائف، وتدخّل «حزب الله» في القتال الدائر في سوريا، إضافة إلى اقتطاع رقع جغرافية داخل لبنان بنى عليها الحزب دورته الإقتصادية والإجتماعية والمالية والعسكرية بمعزلٍ عن لبنان، من دون أن ننسى التنازلات المتتالية لصالح السلاح منذ العام 2008.
إضافة إلى ذلك، يتماشى هذا السلاح الآن مع حراك شعبي وطني يرتكب الخطأ نفسه الذي قاد الحركة الوطنية إلى الدمار في 1975 عندما اتُّهِمت الدولة اللبنانية برموزها المارونية بإيصال البلاد إلى حافة الهاوية، ولم يُتّهم السلاح غير الشرعي الذي أنهك الدولة وعطّل قدراتها.
أحذّر وبكلّ وضوح، من إنفجارٍ طائفي لا يقف في وجهه حراكٌ أو دولةٌ أو حتى جيشٌ بكامله، إذا استمرّ الكلامُ على أنّ الفساد «سنّي»، والإرهاب «سنّي»، وعدم تفهّم الحراك الشعبي «سنّي»، ومَن يقمع بإسم الدولة «سنّي»، وأنّ مقدرات البلد نُهِبت من قبل «السنّي»، وأنّ اغتصاب حقوق المسيحيين «سنّي»، ومن حلّ مكانهم في صدارة الدفاع عن لبنان في العالم «سنّي»، وأنّ الهجرة إلى أوروبا «سنّية» إلخ…
أحذّر وبكلّ وضوح، من انزلاق لبنان مجدّداً نحو العنف.
أحذّر وبكلّ وضوح، من تكرار أخطاء الماضي. فليست الدولة اللبنانية هي العاجزة بالأصل والتكوين والضرورة إنما تقع المسؤولية على السلاح الذي منعها ويمنعها من القيام بواجباتها منذ العام 2005 وقبله وحتى اليوم. هذا مع تحميلنا قوى 14 آذار مجتمعة ومنفردة مسؤولية الوقوع في الفخ القديم – الجديد، منذ اتفاقية القاهرة 1969 حتى اليوم، وهو «مقايضة الاستقرار وجزءٍ من السلطة بجزءٍ من السيادة».
فلقد تنازلت 14 آذار تدريجاً وتقاسمت السلطة مع السلاح في حكومات 2005 – 2008 – 2009 – واليوم مع حكومة المصلحة الوطنية. وإذا كان مِن أخطاء، وهي عديدة وخطيرة، من الطبقة السياسية فلنحاكم مَن هو المسؤول بعيداً من محاكمة طائفة أو مذهب. أما الحلّ فيكون تحت عنوان واحد منذ العام 1920: العبور إلى الدولة، التي تحتكر وحدها استخدام القوة العسكرية وفقاً للقانون!
وتحذيراً ممّا قاله الشاعر العربي الحكيم القديم نصر بن سيار:
أرى تحت الرمادِ وميضَ جمرٍ ويوشكُ أن يكونَ له ضرامُ
فإنّ النارَ بالعودينِ تذكى وإنّ الشرّ مبدأهُ كلامُ