كرَّم لبنان الرسمي، ممثلاً بالرؤساء الثلاثة وقائد الجيش شهداءه العشرة الذين قتلتهم داعش بعد اختطافهم في العام 2014 من جرود عرسال، وسط حداد رسمي وشعبي عمّ كل الأراضي اللبنانية وتعهد رئيس الجمهورية في كلمته لذويهم ومعهم، كل اللبنانيين بأن دماء الشهداء أمانة حتى تحقيق الأهداف التي استشهدوا من أجلها وجلاء كل الحقائق.
إن تركيز رئيس الجمهورية على عبارة جلاء كل الحقائق يطرح جملة أسئلة هي في الأساس مطروحة عندما أعلن الرئيس عون قبل بضعة أيام عن فتح تحقيق في ملف الجنود الذين خطفهم ثم قتلهم تنظيم داعش بقصد الكشف أولاً عمّا إذا كان هناك ثمة تقصير من قيادة الجيش آنذاك، ولماذا بالتالي لم تتخذ تلك القيادة كل الإجراءات العسكرية وغير العسكرية لإخراجهم من يد داعش سالمين. فهل ان مثل هذا التحقيق الذي عهد وزير العدل الى مدعي عام التمييز تولّيه وفق مقتضيات القانون اللبناني يفتح باباً واسعاً على الجدال السياسي الدائر منذ خروج مقاتلي داعش من الجرود مع عوائلهم بناء على قرار اتخذه على هذا الصعيد حزب الله مدعوماً بشكل صريح من رئيس النظام السوري بشار الأسد، ويوسع الانقسام داخل الحكومة استعادة الثقة، خصوصاً وأن الاتهامات بالتقصير في حماية العسكريين المخطوفين وإعادتهم سالمين إلى ذويهم لم يقتصر على قائد الجيش آنذاك بل تعداه إلى رئيس الحكومة السابق تمام سلام الذي حمَّله فريق سياسي معروف مسؤولية الامتناع عن منح الجيش القرار السياسي بدخول بلدة عرسال التي تأوي مسلحي داعش بقوة السلاح واسترجاع العسكريين منها قبل ان تنقلهم إلى الجرود ومن ثم تعمل على قتلهم!
قد يكون هذا الاحتمال هو المقصود من كلام رئيس الجمهورية في مناسبة تكريم الشهداء خصوصاً وأنه سبقه كلام من فريقه السياسي خلال السجال الذي دار حول ملابسات المفاوضات التي قادها حزب الله لإخراج الداعشيين الذين يحاصرهم الجيش اللبناني من الجرود ومع اسلحتهم وعوائلهم فيما كان منطق الأمور يقضي بعكس ذلك أي بأن يستمر الجيش في تضييق الخناق عليهم إلى ان يستسلموا أو يقتلوا وتطوى بذلك الصفحة التي شغلت لبنان واللبنانيين على مدى ثلاث سنوات مضت، وطرحت أسئلة كثيرة حول بقاء هذا الملف عائقاً، وإذا كان غير ذلك، فماذا يقصد رئيس الجمهورية وقبله رئيس الحكومة من وراء هذا التعهد بفتح التحقيق لمعرفة كل ملابسات الخطف والقتل ومَنْ الجهة اللبنانية المسؤولة عن ذلك.
كان اللبنانيون، يتمنون ان يُطوى هذا الملف نهائياً بتكريم شهداء الجيش وشهداء لبنان ولا يُصرّ المسؤولون على إعادة نكء الجراح بفتح مثل هذه الملفات لأنه يكفي هذا البلد انقسامات وخلافات وتوترات سياسية وقد آن الحين الذي يتوجّب على جميع المسؤولين في الدولة من دون استثناء الكف عن تسعير هذه الخلافات والانقسامات والالتفات إلى معالجة الأوضاع الصعبة التي يمر بها لبنان اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وانمائياً وفي كل المجالات والالتفاف حول الجيش اللبناني الذي جاءت كلمة قائده العماد جوزاف عون معبرة في تحديد دور مهام الجيش وتحديداً رده على كل من يحاول العبث بالأمن والتطاول على السيادة الوطنية أو التعرّض للسلم الأهلي وإرادة العيش المشترك، والتزام الجيش بدحر الإرهاب إلى مهمة الانتشار على امتداد الحدود الشرقية للدفاع عنها والالتزام التام بالقرار 1701 ومندرجاته كافة، والتعاون الأقصى مع القوات الدولية للحفاظ على استقرار الحدود الجنوبية، لأن كلام القائد جاء في التوقيت المناسب ليضع الجميع امام مسؤولياتهم الوطنية وليس امام مصالحهم السياسية الآنية وحتى المستقبلية.