وحدها آلية فكرية كتلك المعتمدة عند القيادة الروسية، تستطيع ان تفترض شيئاً سورياليًّا من نوع أن يقبل «الجيش السوري الحر» عرضها لتأمين «تغطية جوية» لتحركاته الميدانية!
ووحدها هكذا قيادة تقفز في غضون أيام من حالة إلى نقيضها تماماً. كأن تقول على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف بداية، إنها لا تعرف أين هو الجيش الحر «وما إذا كان لا يزال موجوداً أصلاً»، ثم تعود وتكتشف فجأة، وعبر اللسان ذاته، انه حيثية ميدانية قتالية قائمة (جداً) وإلى حد استحقاقه تقديم عرض حماية تحركاته جواً! ثم الاستطراد أكثر من ذلك وصولاً الى وضعه في سلّة مقترحاتها لِـ«الحل» من خلال طرح إعادة دمجه في الوحدات النظامية لبقايا الجيش الأسدي، «في الطريق الى القضاء على الإرهاب».
واللافت في الحالتين المتناقضتين ان تطور الموقف السياسي هذا، لم يتأثر أو يؤثر بالموقف العسكري المتصل بالغارات الجوية الروسية، التي عاد الأتراك وأكدوا، أن تسعين في المئة منها لا يطال «داعش» بل الأخطر، هو وصول معظم جماعات المعارضة المسلحة في الشمال، الى قناعة تفيد بأن «عاصفة السوخوي» لم تفد حتى الآن، سلطة الأسد وجماعات المحور الإيراني التي تقاتل معه (أو عنه!) بقدر ما أفادت «داعش» وتحركاته الميدانية!
وذلك أمر من جزئيات نتاج هذه الآلية الفكرية، ولا يُفترض أن يثير الاستغراب أكثر من عمومياتها وأصولها، ومنذ بداية الثورة السورية حتى اليوم. بحيث إن موسكو لا تزال تندب القذافي! وتتأسف على رحيله! وتضع مصيره في قمة تبريراتها للتمسك بالأسد الذي يُعتبر من ألعن ما أنتجه تاريخ البشر في الإجرام والإرهاب واحتقار كل معطى إنساني أو قيمي أو وطني..
لا ترى القيادة الروسية ما يراه غيرها فوق هذه الأرض، ربما لأنها أليفة ومتآلفة أساساً مع طبيعتها الأولى التي نمت وترعرعت في ظل منظومة شمولية تضع الجماعة قبل الفرد. والنظام فوق الإثنين. والتوجيه قبل التعليم. ومصادرة القرار قبل حرية القرار. وتنكر الأبعاد الاولى لمعنى الحياة، الخاصة بالحرية والتملّك. وتفترض في قمة تناقضاتها ان طغمة نخبوية يحق لها قيادة العموم والتفكير عنهم وتقرير كل شأن من شؤونهم.. من أجل بناء نظام يربط العدل الأخير بتحطيم التمايز الطبقي!
كانت البولندية – الألمانية روزا لوكسمبورغ من أوائل الذين استشرفوا خبز تلك العجينة منذ بداية تخمّرها، وقالت في مطالع القرن العشرين، ان حزب العمال (البلشفي) سيختصر العمال. وان اللجنة المركزية للحزب ستختصر الحزب والعمال. وان المكتب السياسي سيختصر اللجنة المركزية والحزب والعمال معاً. وان شخصاً واحداً سيختصر في آخر العنقود، كل تلك الكيانات، وتحلّ النكبات… ولم يخيّب ستالين ومن خَلَفَه، حرفاً من قراءاتها الخلابة تلك!
هذه المنظومة الفكرية استعادت حيويتها في موسكو، وان غيّرت في بعض طقوسها، ومنها يأتي ذلك النمط من القرارات والقراءات.. والتي من ضمنها الافتراض بأن بشار الأسد «يعالج» سوريا ولا يحطمها. ويبنيها ولا يحيلها يباباً خراباً لا مثيل له! وإن كل من يقف في وجهه هو إرهابي بالتمام والكمال ولا تستقيم شؤون هذه الدنيا من دون القضاء عليه… وصولاً الى عرض خدماتها على الأسد وأعدائه دفعة واحدة!