أسئلة لم تلقَ أجوبةً واضحةً بعد من القيّمين على شؤون البلاد والعباد: ما هي حقيقة الأزمة الاقتصادية والمالية؟ هل هي مجرّد ضغوط؟ هل هي أزمة عابرة؟ هل هي أزمة حادّة ومستعصية؟ وهل هي أزمة مستدامة وضعت البلد على طريق الانهيار؟
الناس يعرفون الإجابات، ولمسوها بوجهها الصارخ، ولكن في المقابل ثمّة حالة إنكار مثيرة للعجب تعيشها الطبقة السياسية في لبنان؛ هو إنكار لخطورة الوضع برمّته، تارة بوضعه في خانة «التصويب على العهد»، وهي الكلمة السحرية التي تُستخدم كشكل من أشكال الهروب إلى الأمام في مواجهة إخفاقات، وتارة بالرهان على مؤتمر «سيدر»، لتأمين بضعة مليارات لإنقاذ مشروع سياسي – اقتصادي أوصل لبنان إلى ما هو عليه اليوم.
التخدير بإجراءات شكلية لا يمنع الانهيار، وكلّ التطمينات بأنّ «البلد لن يغرق»، وكلّ الوعيد بملاحقة من يروّجون لسيناريو الانهيار، لا يُطعم خبزاً. فهل يحتاج المرء إلى أكثر من النزول بضع دقائقَ إلى الشارع، أو الذهاب لإجراء معاملة حكومية أو مصرفية، لكي يكتشف وميض الجمر تحت رماد الوعود الكاذبة؟
ما حدث الأحد الماضي، في وسط بيروت وبعض المناطق اللبنانية، ليس سوى «بروفة» أولية للفوضى الآتية، ما لم تتحمل الطبقة السياسية مسؤولياتها كاملة، بقرارات جريئة، لا تقع، كالعادة، على عاتق المواطنين.
أحداث الأحد، وبعيداً عن مهاترات حرّاس الحكومة، والمطبّلين لانجازات وهمية بشعارات بالية ومهترئة، والساهرين على راحة المتحكّمين الغارقين في سبات عميق، وبعيداً أيضاً عن «حاشية البلاط»، ونظريات المؤامرة التي تحرّك هذه الحاشية فتجعل صرخة المواطن «تصويباً على العهد»، هذه الأحداث اختزلت ما يجري في البلد ضمن مساحة شارع في بيروت.
من نزلوا إلى الشارع، جلّهم من الطبقة التي ضغطت على أنفاسهم الطبقة الحاكمة، وما زالت، بانحيازها إلى نفسها وإلى من هم فوق، فأغرقتهم في وحول الأزمة.
ثمّة تنظيرات عديدة برزت خلال العقود الماضية، تفيد بأنّ الحرب الاهلية لم تكن لتحدث لو أنّ الطبقة الحاكمة نجحت في رأب الصدع في علاقاتها الاقتصادية التي ازدادت تناقضاً، وحماية مصالحها ضمن حدٍّ أدنى من التفاهمات.
بهذا المعنى، من ينطلق من فكرة أنّ الاقتصاد هو المحرك للسياسة، وهي فكرة تنطوي على الكثير من الواقعية، فإنّ الانهيار الاقتصادي هو الذي سيقود إلى «خراب البصرة».
ومع ذلك، لا يمكن التسليم حكماً بالتوقعات السوداوية التي تزعم أنّ اللبنانيين سيستيقظون صباحاً ليجدوا أنّ اقتصادهم قد انهار كجبل ثلج، فيتهافتون إلى المصارف أو الى ماكينات السحب، في مشهد ينذر بفوضى لا حدود لها.
في الواقع، وعلى ما يُستنتج من آراء الخبراء، ثمّة ما يمكن البناء عليه لنقض هذا السيناريو، منها أنّ لبنان، وعلى الرغم من التصنيفات الائتمانية السلبية، ما زال قادراً على تسديد ديونه، و”مصرف لبنان” ما زال لديه احتياط مالي كبير بالدولار، برغم ما شهدته السنوات الماضية من تراجع، علاوة على احتياط الذهب، الذي سيشكل الجبهة الدفاعية الأخيرة قبل الانهيار، علاوة على أنّ القطاع المصرفي ما زال فاعلاً، برغم الهزات التي واجهها، خلال الفترة الماضية، وآخرها العقوبات الأميركية على مصرف جمّال.
لكنّ ذلك لا يكفي، لكي ينام اللبناني مطمئنّاً، فالأزمة بالنسبة إلى المواطن ليست مؤشرات ماكرو- اقتصادية أو ميكرو- اقتصادية. هي في الأساس خبز، وبنزين، ومازوت، ومدارس، وطبابة، وسكن، وملبس… هي نفسها الهموم التي تمثل الهدف الأسهل لعباقرة الزمن الاقتصادي الحالي.
لا يختلف لبنانيان على أنّ السياسات الاقتصادية والترتيبات المحاسبية في مشاريع الموازنة هي أصل البلاء، فلا ضريبة على سلعة استهلاكية، ولا وقف الانفاق الخدماتي، ولا تجميد التوظيف سيوقف الانهيار، بل أنّ كلّ هذه الإجراءات ستُشعل النيران بسرعة، بدل إخمادها أو حتى احتوائها، فأقصى ما يمكن أن تنتجه هو تأجيل الانهيار الكبير، ببضعة مليارات إضافية من القروض، التي باتت قدرة لبنان على الحصول عليها أكثر صعوبة.
الحلّ، كما يقول الخبراء، بإجراءات من نوع آخر. لم يعد يكفي فرض ضرائب ورسوم جديدة، أو الاعتماد على هندسات مالية انكشفت خلال بضعة أيام، حتى ولو بسبب ما يصفه البعض بالشائعات.
ثمّة حاجة إلى ما يهدّئ هواجس مواطن يلهث ليلاً ونهاراً، على مدار الاسبوع، لتأمين قوت أولاده، أو حتى تساؤلات وجودية يطرحها أحدهم فيضطر لأن يستنزف حياته في دوامَي عمل لتأمين أدنى مقوّمات الحياة، بالحد الأدنى للأجور، فيما مسؤولون يسخّرون مال الدولة، وكأنّه «مال أبيهم» ينثرونه ، ومنهم من لا يخجل من إنفاق ملايين الدولارات على ملذاته.
الحلّ، في رأي الخبراء، يكمن في إجراءات محدّدة، أولها نزول رموز الطبقة الحاكمة عن شجرة الفجور: وقف الهدر واستعادة ما أمكن استعادته من أموال الدولة المنهوبة، فإذا كانت المحاسبة في لبنان ضرب من ضروب الخيال، فليكن إذاً «التصالح» على الأموال، وهي التجربة التي اعتُمدت في الكثير من الدول المشابهة للبنان في احتلالها مستويات عالية على لائحة الفساد العالمية.
قبل أشهر، وخلال مؤتمر اقتصادي، وصف رئيس الحكومة التجربة الاقتصادية المصرية بالنموذجية. فهل كان يعني بذلك الذهاب نحو تعويم الليرة، كما فعلت مصر في تعويم الجنيه؟ أم الذهاب نحو خصخصة المؤسسات الحكومية وفقاً لوصفات صندوق النقد الدولي؟
ربما يكون «التصالح» على الأموال المنهوبة هو الأمر الوحيد الذي يمكن الاستفادة منه من التجربة المصرية – بالرغم من أن تطبيقها جاء مجتزأً وانتقائياً إلى حدّ كبير – ولكن هذا الخيار، في بلد مثل لبنان، يبقى طوباوياً، ذلك أنّ شيطان التفاصيل سيكون حاكماً فيها، حتى وان اتخذ القرار الجريء باتباعها: من سيُقرّ بأنّه نهب المال العام؟ ومن سيزايد على الآخر بأنّه هو السارق، بل هل يستطيع أحد أن يرجم الثاني بحجر؟
المناخ السائد في البلاد يبقى محكوماً بحقيقة ثابتة وحيدة: الانهيار حتميّ، وإن طالت فترة افتتاح ستارة العرض الأخير. قد تُنتج المعادلة اللبنانية تسويات اقتصادية، كما أنتجت في السابق تسويات سياسية… وقد تؤدّي إجراءات طارئة إلى امتصاص المظاهر الفاضحة للأزمة الاقتصادية المقبلة إلى حين… ولكن إلى متى؟ أبحلول موعد انتخابات رئاسة الجمهورية مع قرب دخول العهد نصفه الثاني، أم بهزة أمنية غير متوقعة في ظلّ اشتداد التناقضات، ليصبح حينها الكلّ في قعر الهاوية حيث سيكثر البكاء وصرير الأسنان.