IMLebanon

ميركل والاقتصاد القوي 

 

تقاعدت «انجيلا ميركل» من السياسة الألمانية الداخلية وحل حزبها ثانيا في الاستفتاء الشعبي.  من الممكن أن تحصل على مراكز دولية لاحقا في الأمم المتحدة مثلا، لكن فترة ما بعد قيادة ألمانيا ستكون لبعض الراحة.  عموما تمر الدول واقتصاداتها بفترات صعبة بعد حروب أو خضات داخلية.  ليست هنالك دولة مرت بتجارب مرة أكثر من ألمانيا، أي حربين عالميتين دمرتا كل شيء.  أعادت الحكومات المتعاقبة البناء بذكاء وسرعة ودقة ونجاح.  أعادت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بناء نفسها مع ديموقراطية ترسخت في العقلية والممارسة والحياة السياسية.  نجحت ألمانيا وتخيف اليوم حتى أقرب حلفائها.  قال الرئيس فرانسوا ميتران يومها أنه يحب ألمانيا كثيرا، وبالتالي يرغب في بقاء ألمانيتين.  هنالك دائما محاولات لجذب البلاد نحو الأحزاب اليمينية المتطرفة، الا أنها لم تنجح والانتخابات الألمانية الأخيرة أكدت ذلك.

 

ارتكز النموذج الألماني الناجح على مزايا عدة أهمها دولة لامركزية توزع النجاحات على كل أنحاء البلاد.  بعد الوحدة في تشرين الأول 1990، انتقلت العاصمة من بون في القسم الغربي الى برلين الموحدة.  هذا يعني سياسيا الكثير، أي انتقلت العاصمة من مركز لا يبعد أكثر من 200 كلم عن باريس الى آخر يبعد 800 كلم عن العاصمة الفرنسية.  ابتعد المركز السياسي القوي عن قلب أوروبا، أي عن باريس العاصمة.

 

هنالك مراحل عدة مميزة في الحياة الاقتصادية الألمانية أهمها فترتي حكم «هلموت شميدت» (1974\1982) و«غيرهارد شرودر» (1998\2005).  هما من الحزب الديموقراطي الاجتماعي SDP الذي فاز في الانتخابات الأخيرة والواقع على يسار الخريطة السياسية الداخلية.  طبعا ميزان النجاح والفشل يخضع للتفسيرات غير الموضوعية في معظم الحالات، الا انه يمكن القول أن شميدت العارف اقتصاديا قرب ألمانيا كثيرا من الولايات المتحدة.  كما أن شرودر فتح الاقتصاد على المنافسة أكثر من أي مستشار سابق.  حرر شرودر سوق العمل وخفض الضمانات الاجتماعية لتخفيض تكلفة العمل وبالتالي رفع الانتاجية.  نتج عن سياسات شرودر ارتفاع نسب الفقر والفجوة المادية الداخلية كما تدنت الاستثمارات في البنية التحتية التي هي ركيزة أي تطور صناعي وتكنولوجي.  منذ ذلك الحين أي من 2005 سمحت الأوضاع الداخلية والدولية للحزب الديموقراطي المسيحي بقيادة «أنجيلا ميركل» بالفوز والبقاء في الحكم.  ركزت ميركل سياساتها على رفع الاستثمارات العامة، فنتج عنها انخفاضا كبيرا في البطالة الى 3,2% قبل اجتياح الكورونا للعالم أجمع.

 

من ميزات النموذج الألماني الناجح اعطاء قوة كبيرة للموظفين والعمال في ادارة الشركات، أي أن صوتهم قوي وفاعل ولهم حق نقض القرارات.  فالشركات الألمانية لا تخضع فقط لقرارات المالكين، اذ للعمال صوت فاعل وأساسي.  من المساوئ هو التقارب الكبير بين الشركات والمصارف عبر التعاون أو الملكيات المشتركة، مما يخلق فرص تضارب مصالح خطرة.  أما دور المرأة في الاقتصاد، فارتفع كثيرا منذ قدوم ميركل الى الحكم ومن غير المتوقع أن يتغير ذلك أيا كان المستشار الجديد.  في كل حال، هنالك اهتمام كبير من كل الأحزاب الألمانية بالشؤون البيئية، ومن المتوقع أن يبقى ذلك مع المستشار الجديد.

 

الفارق الكبير مع فرنسا يسمح بالتعمق أكثر في فهم الوضع الألماني الحالي.  ليس هنالك في ألمانيا مدينة بأهمية باريس في فرنسا.  هنالك مدن عدة متقاربة في الدولة الألمانية لذا يوزع النمو أكثر على كل البلاد بينما في فرنسا لا شيء يعادل قوة باريس وبالتالي مركزية التنمية واضحة.  الديموغرافية الألمانية مكثقة أكثر من الفرنسية أي 231 شخص في الكلم المربع مقابل 114 في فرنسا و 255 في بريطانيا.  عدد سكان فرنسا اليوم 67 مليون والألمان 83، لكن بفضل السياسات السكانية التي تعتمدها فرنسا سيصبح عدد الفرنسيين 72 مليون في سنة 2060 مقابل 66 مليون للألمان فتنقلب المعادلة تدريجيا وهذا ليس لصالح ألمانيا التي تحتاج لليد العاملة.

 

لم يكن لألمانيا مستعمرات على عكس فرنسا، لكنها استقدمت العديد من الجنسيات أهمها التركية وهذا يخلق لها اليوم مشاكل ثقافية واقتصادية.  بالعكس هاجر العديد من الألمان بسبب الحروب الى دول أميركا اللاتينية وغيرها، وشكلوا قاعدة تسويقية أساسية للمنتجات الألمانية.  الماكينة التصديرية الألمانية مدهشة في فعاليتها ونجاحها، ولها معجبون في كل العالم وربما لا يقاربها في النجاح الا النظامين الكوري الجنوبي والياباني.  الماكينة الصينية مختلفة، وجميعنا يميز بين الجودة الألمانية والانتاج الصيني في مختلف المجالات وخاصة في التكنولوجيا.  على عكس ألمانيا تعتمد فرنسا على القطاع العام لتسويق منتجات القطاع الخاص.

انتاجية العمل الألماني كبيرة وتشير الاحصائيات الى أن بين 1948 و 1951، ارتفعت انتاجية العمل 50% مع ارتفاع الأجور بنسبة 25% فقط.  بين 1950 و 1955، تدنت نسبة البطالة الألمانية من 10,4% الى 5,2% لتصل بعدها الى 1% في سنة 1960.  فائض العمال الألمان الذين أتوا لاحقا من ألمانيا الشرقية سمح للأجور بأن تبقى نسبيا منخفضة.  ألمانيا هو البلد الغربي الوحيد الذي ارتفعت فيه نسبة العمالة بين سنتي 2007 و 2012 بالرغم من الركود الكبير.

 

تتعدل السياسات الاقتصادية الألمانية مع الوقت، لكن هنالك محطات مهمة وشخصيات كبيرة ميزت الأقتصاد الألماني.  لا بد من الاشارة الى دور الاقتصادي «لودفيغ ارهارد» في سنة 1948 الذي استطاع الغاء كافة القيود على الأسعار كما الترشيد والتقنين والتي كانت قائمة مع النظام النازي.  أدخل ارهارد النقد الجديد أي المارك الى السوق.  نعلم جميعا أن ألمانيا قسمت بعد الحرب العالمية الثانية الى أربع مناطق تحت سيطرة اميركا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي.  الأخيرة أصبحت ألمانيا الشرقية، أما الثلاث الأول فأصبحوا ألمانيا الغربية في أيار 1949.  قبل سنة 1958، ارتفع الناتج الفردي الألماني الغربي 3 أضعاف بفضل السياسات المعتمدة وبالتالي أصبحت ألمانيا الغربية أعجوبة الاقتصاد العالمي.  أصبح ارهارد وزيرا للاقتصاد في حكومات «كونراد اديناور» من 1949 الى 1963 وخلفه لسنوات ثلاث كمستشار.

 

ما هي قواعد السياسات الاقتصادية التي بنى ارهارد عليها برنامجه والذي يصلح دروسا لكل الدول؟  اعتمد على ما يعرف بالليبيرالية المنظمة أي المضبوطة من قبل الدولة منعا للاحتكارات وحماية للمنافسة.  سعى النظام الجديد لخلق الأجواء المناسبة للمنافسة، مع تنسيق بين السياسات الاقتصادية تحت رقابة سلطات عامة تحمي الحريات والملكيات وتضرب الاحتكارات والمصالح الفاسدة.  دولة ليبيرالية قوية تمنع عمليا العودة الى النازية الفكرية المرتكزة على القمع وعلى سيطرة القطاع العام على الاقتصاد.