الجنرال ميشال عون يحرق نفسه. إدارته لما يرى نفسه مستحقًا له، تثير الشفقة.. تثير الغثيان.. وتثير الرعب من المستقبل الذي يعدنا به ما لم نلبِّ مطالبه. «ستين سنة عَ الجمهورية والرئاسة»، يقول في مقابلة أخيرة، ويحاجج بأنه ليس صاحب فكرة «عون أو لا أحد». يهددنا نحن المواطنين بستين سنة بلا دولة وبلا جمهورية، وهو لن يعيش بيننا خلالها أكثر من سنوات قليلة، على الأرجح، سيتركنا بعدها أسرى لنتائج شهوة آخر العمر!
آسف لاستعمال هذه العبارة، لكن آن الأوان لأن يقال له: «زهقنا»!
«زهقنا» من سلوك ادعاء الضحية.. فأنت ضحية في المنفى، الهارب إليه عام 1989 من معركة كنت تعرف أنها خاسرة. وضحية في لحظة طردك سعد الحريري من رئاسة الحكومة والبلاد، وهو زعيم أغلبية برلمانية متنوعة تشبه لبنان، وأغلبية لم ولن تحلم بحيازتها. وضحية حتى في الحكومة التي وقفت يومًا وقلت إنك للمرة الأولى تختار رئيسها مع حلفائك. وضحية في الحكومة نفسها التي شكلتها مع حزب الله وترأسها نجيب ميقاتي، وحزت فيها عشرة مقاعد لم ينتج عن واحد منها قصة نجاح يعتد بها لا في الإصلاح ولا في التغيير.
«زهقنا» من شهيتك الحادة والدائمة للحصول على مبتغاك بسياسة تكسير الرؤوس ودوس الكرامات ومنطق العنفوان المرضي! كأن المناصب والمكتسبات السياسية تلال وهضاب تسقطها بالقصف المدفعي، أو حقول رماية تزرعها رصاصًا.
«زهقنا» من عنادك على أخذ البلاد إلى الأسر، بحجة التمثيل المسيحي، وبكذبة الرئيس القوي، «الذي تأتي به كل طائفة»، بحسبك، فيما تمنع طائفتك من ذلك.
ماذا كانت الصفة التمثيلية للرئيس سليم الحص عندما شكل حكومة.. بداية مشروع إنهاء رفيق الحريري عام 1998؟ حسنًا كنت أنت في المنفى!
ماذا كانت الصفة التمثيلية، بمعيار القوة الذي تخاطبنا به، عندما سميت مع حلفائك الرئيس نجيب ميقاتي رئيسًا للحكومة؟
بل ما الصفة التمثيلية الآن للرئيس تمام سلام، التي بموجبها ترأس الحكومة الحالية، ما لم تكن هذه الصفة أنه يمثل تقاطعًا مقبولاً بين جميع مكونات الحكومة الحالية؟ هل من يمثل تقاطعًا بين الجميع هو الرئيس القوي، بالمعيار العوني للقوة؟!
أنت، يا حضرة الجنرال، عندما تتحدث عن احتكار الطوائف تسمية الرؤساء الأقوياء، تتحدث عن حالة من الشذوذ الكبير في الحياة السياسية والوطنية اللبنانية، يمثلها التدخل المباشر لسلاح حزب الله في تقرير السياسات العامة أو معظمها، كما في حماية حصته في كل مرة يعاد فيها تكوين السلطة.. في الانتخابات وبعدها، أو إثر سقوط حكومة والبحث في تشكيل أخرى. الأخطر أنك تسعى علنًا للتماهي مع هذا الشذوذ الذي تمثله الشيعية السياسية، «دونًا» عن كل المذاهب الأخرى، بما فيها الحالة الدرزية رغم كل خصوصيتها العددية والجغرافية وطبيعة تكوين الزعامة فيها تاريخيًا. بل تبدو راغبًا بحدة، في إنتاج «مارونية سياسية» تماثل «الشيعية السياسية» الراهنة بكل ما ينطوي عليه ذلك من ثقافة الإلغاء التي لا تعرف غيرها!
ولهذا الغرض، تغرق الناس في التعميم وفي التعتيم، وتركز هجومك على الرئيس سعد الحريري، اللبناني الأخير في هذا البلد، بما يمثله من إرادة وتصميم على ممارسة العيش الواحد وعدم الاكتفاء به شعارًا بلا محتوى.
ما تريده هو تحالف أقليات خائفة ومذعورة ومستَنفَرة، وهذا ما يفسر التعميم والتعتيم.. لأنه مشروع مخجل.. مشروع مخزٍ. «لبنانيتك» السابقة تعرف ذلك جيدًا، قبل أن تكتسب كل عناصر الجنون المذهبي.
وتعرف أكثر أن التحاقك باستراتيجية الشيعية السياسية، لا يعطيك شيئًا حتى الآن إلا دور المُستَخدَم عن مشروع ولاية الفقيه، القائم على تفعيل ديموغرافيات مذهبية محددة واستثمارها في مشاريع الحروب الأهلية؛ الباردة والساخنة، في المنطقة.
«زهقنا» ونحن نراك تستهلك كل شيء للوصول إلى ما تراه حقًا مكتسبًا مفروضًا على الآخرين بقوة الطبيعة والتاريخ. وحين أقول «كل شيء» أعني ذلك حرفيًا، بما في ذلك استهلاك الأقربين إليك.
لك صهران يعملان في الشأن العام، يقول عنهما حكيم من حكماء لبنان، إن أحدهما يتمتع بنقطة قوة وحيدة؛ هي مصاهرتك، والآخر مُبتلى بنقطة ضعف وحيدة؛ هي مصاهرتك أيضًا. نعم، يستحق صهرك العميد شامل روكز قيادة الجيش.. كفاءته تستحق، ووطنيته تستحق، لكنك لا تفعل سوى أنك تحرمه وتحرم الجيش من كفاءته ووطنيته، لأنك تعتبر الرئاسة وقيادة الجيش وعشرات المناصب الأخرى حقوقًا مكتسبة لا تستأهل التسويات مع الآخرين والتفاهم معهم. أما مَن نقطة قوته الوحيدة تكمن في مصاهرتك، فيمضي بلغة أكبر منه وأكبر من البلد، آملاً في إحراق فرص عديله، العميد روكز، لأنه لا يراه إلا غريمًا في توزيع إرثك، مغلفًا ذلك بالدفاع المزيف عن حقوق المسيحيين.
«زهقنا» من وطنيتك المزعومة في هذه اللحظة التي تمر فيها المنطقة بأحد أخطر الزلازل الكيانية، فيما أنت لا تقوى على رؤيتها إلا فرصة لمعانقة التاريخ من على كرسي رئاسة الجمهورية! ماذا فعلت هذه الوطنية سوى تغطية حزب الله في كل مغامرات وجرائم سلاحه؟ في حربه في سوريا التي لن نرث منها إلا عقودًا من الكراهية، كأنما ينقص تاريخ العلاقات المعقد بين البلدين أسباب إضافية للحقد والضغينة.. وفي حربه على اللبنانيين اغتيالاً واشتباكًا. أين هي نقطة المنتصف التي تلاقي الآخرين إليها، لحد أدنى من الشراكة التي تنادي بها؟
«زهقنا» من هراء الميثاقية الذي، للأمانة، تعد أنت أعلى أصواته، في وقت يزدهر فيه هذا الهراء عن معظم القيادات المسيحية، تارة بعنوان اقتراح اللقاء الأرثوذوكسي، وأخرى بعنوان «فيدرالية مزورة»، (لستُ ضد الفيدرالية)، وثالثة بنعي التجربة الدستورية اللبنانية الحالية بمفردات مبهمة وغائمة لا تفصح عن أفق إصلاحي حقيقي للنظام، بقدر ما تفصح عن رغبة في تعديل آلية تقاسم المكتسبات داخل النظام السياسي!!
«زهقنا»، وتعبنا. يكفيك ربع قرن من أعمارنا.
الخط مقفل.. يرجى عدم المحاولة مرة أخرى.