كلّما اقتربت أنقرة من موسكو كلما ابتعد الأتراك عن حليفهم الأميركي، وتوترت العلاقات بينهما أكثر فأكثر. لولا المصالحة والتطبيع والعقود والإتفاقات التجارية المُقدَّرة بعشرات المليارات من الدولارات بين تركيا وروسيا، وقرار التفاهم الثنائي على حسم ملف الأزمة السورية، لما حدث هذا التصعيد الكلامي الأخير بين الحكومتين التركية والأميركية، وعلى نحوٍ لم يسبق له مثيل بسبب أكراد سوريا وتضارب مشروعيهما هناك.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أنّ لديه أدلّة ثابتة بأنّ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يقدّم الدعم إلى منظمات إرهابية في سوريا، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، والحزب الديموقراطي الكردي.
ووصفت وزارة الخارجية الأميركية هذه التصريحات بالـ«الحمقاء والمضحكة». العلاقات التركيةـ الأميركية في الحضيض منذ اشهر، وسط إتهام أنقرة لواشنطن بتجاهل مصالحها في سوريا والعراق، ورفض تقديم الدعم لقواتها التي تحارب في سوريا، إلى جانب مماطلة أميركية واضحة في إعادة فتح الله غولن المُتهم بقيادة محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وتمسّك واشنطن برفض دعم مشروع إقامة المنطقة الآمنة اذا لم نقل عرقلته.
وأميركا غاضبة من التحوّل السريع والواسع في سياسة تركيا الإقليمية التي فتحت الباب أمام حقبة جديدة من العلاقات التركيةـ الروسية، وتراجع النفوذ الإقليمي للولايات المتحدة.
أنقرة منذ أشهر طويلة تتهم الإدارة الأميركية عبر بريت ماكورك المبعوث الخاص للرئيس الأميركي باراك أوباما بالإشراف على عمليات الدعم والتسليح لوحدات الحماية الكردية، حيث كان آخرها إرسال 3 شحنات من الاسلحة الثقيلة بينها صواريخ محمولة على الأكتاف مضادة للطائرات نُقلت جواً الى ريف الحسكة خلال الأُسبوعين الأخيرين.
المُلفت هذه المرة كان تحرّك الخارجية الروسية لتأكيد ما تقوله تركيا ووصفته بالعمل العدائي الذي تقوم به إدارة أوباما، التي تريد تعقيد الوضع السوري، قبل تسلّم دونالد ترامب مقاليد الحكم.
ما الذي حدث هنا ودفع أردوغان للتصعيد على هذا النحو ضدّ حليفه الأميركي، الى درجة اتهامه بعدم الالتزام بتعهّداته المُقدَمة لتركيا في الحرب على داعش، وتركها وحيدة في مدينة الباب السورية، مقابل كلّ هذا الدعم لحزب الإتحاد الديمقراطي الكردي الذي ترى فيه أنقرة حزباً إرهابياً، ما دفعها للتلويح بالصور ومقاطع الفيديو التي تمتلكها حول العلاقة بين واشنطن وهذه التنظيمات الإرهابية؟
يقول جون كيربي المتحدث بإسم الخارجية الأميركية إنّ سياسة بلاده لم تفشل في سوريا، بل الذي فشل هو سياسات روسيا وإيران كونهما دعما الحلّ العسكري بدل السياسي هناك. فلِمَ تواصل أميركا اذاً تقديم السلاح الحديث عبر جسر جوّي وبرّي الى أكراد سوريا، إذا ما كانت فعلاً تدعم الحلّ السياسي في سوريا؟ هي قد لا تكون تدعم خطة تدمير سوريا وتشريد شعبها، لكنّها تدعم حتماً مشروع الكانتونات الفدرالية والتقسيم والشرذمة هناك تماماً، كما فعلت في العراق عام 2003.
آخر التقارير الأمنية التركية كشفت النقاب عن انتقال نحو ألفي عنصر من تنظيم داعش الى حزب العمّال الكردستاني للسيطرة على مناطق سنجار في شمال العراق، في استهدافٍ مباشَر لنفوذ حليف أنقرة مسعود البرزاني، الذي يُغضِب في هذه الآونة حكومة بغداد المركزية ويعرقل تقدّم النفوذ الإيراني هناك.
أكراد حزب الإتحاد الديمقراطي التابع لصالح مسلم وجّهوا تحية لبشار الأسد من مدينة رميلان السورية، حيث يواصلون عقدَ اجتماعاتهم لإقرار دستور شمال سوريا الكردي الانفصالي تحت مسميات مختلفة. مركز المواجهة التركيةـ الأميركية سيكون مدينة الرقة التي يريدها الأكراد عاصمة لهم بعد تحريرها من داعش، فكيف ستكون الإصطفافات الإقليمية والدولية؟ هذا ما سيساعدنا تفاهمُ بوتين ـ ترامب على معرفته بعد 3 أسابيع.
معركة الرقة هي نقطة المواجهة المقبلة بين تركيا وأكراد سوريا. فهل تتحرّك روسيا عبر لعب ورقة النظام لقطع الطريق على هذه المواجهة لمصلحة حليفها الجديد تركيا، أم أنّ هناك مفاجأة روسية أميركية لتركيا وإيران والسوريين مخبّأة في انتظار تسلّم الرئيس الأميركي الجديد مهامه؟
معلومات استخبارية تركية تقول إنّ أنقرة تستعدّ لمواجهة عسكرية مباشرة مع الوحدات الكردية في منبج، وهي مسألة شبه محسومة، لكنّ تقارير أجهزة الاستخبارات التركية تتحدث أيضاً عن استعدادات الوحدات الكردية في شمال غرب سوريا في عفرين لمهاجمة الوحدات التركية والجيش السوري الحرّ لإضعاف الجبهة التركية في الباب والرقة. وما يقلق الأتراك ايضاً هو دور النظام السوري في هذه المواجهات، بالتنسيق مع إيران المنزعجة من العودة التركية بقوة الى الملف السوري بالتنسيق مع روسيا.
وأكراد سوريا الذين يلقون الدعم الأميركي يراهنون على تكرار المشهد العراقي. لكنّ دول المنطقة ايضاً تعلّمت كثيراً من درس العراق خصوصاً أردوغان الذي لا يتوقف عن ترداد «لا يُلدَغ المؤمن من جحر واحد مرتين».
لقاء الآستانة ايضاً سيتحوّل الى نقطة مواجهة تركية ـ أميركية ايضاً، حيث تريده أنقرة فرصة لنقل مكان التفاهمات حول سوريا الى الإقليم قبل كلّ شيء، بينما تصرّ واشنطن على أن تكون كازاخستان خطوة لفتح الطريق أمام جنيف آخر بمشاركتها ورعايتها.
حرب روسيا في سوريا انتهت على ما يبدو، والآن جاء دور أميركا هناك. موسكو وانقرة يريدان قطع الطريق عليها قبل أن تندلع. فهل ينجحا في ذلك أم أنّ الانتشار الكردي العسكري والجغرافي يعطي واشنطن فرص تدمير ما تبقّى من سوريا، على رغم أنّها تردّد أنّ التسوية الكردية ممكنة من دون قتال ومواجهات وتدمير ما تبقى… قسّموا سوريا وأعطوهم ما يريدون!