في مسعى منها للرد على العقوبات الجديدة التي فرضتها عليها إدارة ترامب ، أبت موسكو إلا اختيار توقيت بالغ الدلالة والحساسية للإعلان عن عزمها البدء بعد عام من الآن بتسليم تركيا منظومات صواريخ «إس 400» الروسية المضادة للطائرات والصواريخ، حينما أكدت في خضم الأزمة المتفاقمة بين واشنطن وأنقرة، والتي تمثل تلك الصفقة المريبة أحد العوامل الرئيسية المؤججة لها، حسم الجدل الاستراتيجي في شأن مصير صفقة الصواريخ الروسية التي تعد من أحدث منظومات الدفاع الجوي والدفاع المضاد للصواريخ وأفضلها عالمياً لحماية المرافق السياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية المهمة من الغارات الجوية، إذ في مقدورها تدمير الطائرات والصواريخ المجنحة على مسافة تصل إلى 400 كيلومتر، كما في وسعها رصد وإصابة وتدمير الصواريخ الباليستية التي تصل سرعتها إلى 4800 متر في الثانية على ارتفاع يصل إلى 30 كيلومتراً، فيما تستطيع المنظومة التي يمكن نشرها وتجهيزها للعمل خلال خمس دقائق فقط، توجيه 72 صاروخاً وتدمير 36 هدفاً في آن واحد.
غير أن هذا الإعلان الروسي المفاجئ والمثير لم يكن ليبدد سحب الغيوم الكثيفة التي تلبد أفق تلك الصفقة، خصوصاً مع تمسك أنقرة بالشرط التعجيزي المتعلق بما يعرف في عالم صفقات التسلح بـ «المعاملات التعويضية». فعلاوة على التعقيدات المالية والفنية والإدارية، إضافة إلى أزمة الثقة الناجمة عن التاريخ الصراعي بين الروس والأتراك، فضلاً عن التحفظ الغربي عن الصفقة نتيجة ما وصفه الأميركيون بـ «عدم التوافق» أو «عدم إمكان ضمان التشارك العملياتي» بين المنظومة الدفاعية الروسية ومنظومات التسلح المماثلة في الحلف الأطلسي، الذي انتزعت تركيا عضويته عام 1952 بشق الأنفس وثمن باهظ تكبدته على صعيد علاقاتها بالعالمين العربي والإسلامي إثر اعترافها الصادم بإسرائيل، أبت تركيا إلا أن يتضمن عقد صفقة «إس 400» بنداً يتعلق بـ «المعاملات التعويضية»، بحيث ينطوي على مشروع أو برنامج للتصنيع المشترك لتلك المنظومة الصاروخية داخل تركيا، عبر نقل فصل من عملية إنتاج قطع الغيار الخاصة بها إلى مستودعات التصنيع العسكري التركية، وذلك بعد استيفاء موسكو عدداً من الإجراءات الصارمة، ما يستغرق أيضاً بضعة أشهر، من قبيل إعداد قوائم محددة تحتوي على التكنولوجيات التي ستُنقل إلى تركيا، فضلاً عن المكونات والمواد التي سيتم توريدها من روسيا، إضافة إلى الشركات التركية التي ستشارك في عملية الإنتاج المشترك. بإصرارها هذا، تتطلع تركيا إلى تأكيد قدرتها على تنويع علاقاتها الاستراتيجية بمنأى من الفلك الأطلسي الغربي الذي تدور في فضائه منذ عقود، إضافة إلى تنشيط مشروعها الوطني لتطوير صناعتها الدفاعية، متأسية بكل من الصين والهند اللتين كان لهما قصب السبق في إبرام صفقات لشراء منظومات «إس 400» الروسية، كما عمدتا إلى الاستفادة من تشريعات المنطقة القطبية الشمالية في هذا الصدد، والتي تنص على ضرورة أن تشمل صفقات التسلح التي تبرمها أي من دول المنطقة عقداً يلزمها بـ «معاملات تعويضية» بنسبة 30 في المئة من قيمة أي صفقة، تتجاوز ستة بلايين دولار. في المقابل، تصر الخدمات الخاصة الروسية على معارضتها الشديدة لمبدأ التصنيع المشترك مع الأتراك لأي منظومة صاروخية روسية، مبررة موقفها هذا بالرغبة في درء الأخطار والتهديدات التي يمكن أن تلاحق الأمن القومي الروسي نتيجة اطلاع دولة عضو في حلف شمال الأطلسي على أسرار وخبايا منظومات التسلح الروسية المتطورة، في وقت ترفض الدائرة الاتحادية للتعاون العسكري التقني التابعة لوزارة الدفاع، والدائرة الاتحادية للتعاون التقني للرقابة على الصادرات، الكشف عن أسرار نظام الرادار الروسي المعني بالتعاطي مع الصواريخ المضادة للطائرات، فيما رفضت موسكو غير مرة منح بكين التي كانت أول من أبرم الصفقة وتسلم هذه المنظومة الصاروخية عام 2014، حق تصنيع منظومات»إس 400» على أراضيها بتعاون روسي، مخافة أن تكرر ما فعلته في السابق مع نظام «إس 300» الروسي، الذي أبرمت صفقة مع روسيا لشرائه تضمنت بنداً للمعاملات التعويضية، على نحو أتاح لها إنتاج نسخة صينية منه، وعرضها في الأسواق الدولية لاحقاً. وعلى رغم ما سلفت الإشارة إليه من تحديات وعراقيل، فضلاً عما بدا من مراوغات ومناورات، تبقى حاجة كل من موسكو وأنقرة الماسة لإتمام تلك الصفقة المعقدة في أسرع وقت، وإن تباينت مآربهما من وراء ذلك، بمثابة دافع قهري لا يفتأ يغوي كلا الطرفين بتمرير الصفقة وسط العواصف العاتية من المعوقات الإقليمية والدولية، واللجج المتلاطمة من التعقيدات المالية والفنية. فمع تنامي الشغف التركي لاقتناء منظومة «إس 400» في أقرب وقت بغية معالجة الخلل المزمن في أنظمة الدفاع الجوي التركية، علاوة على إضفاء شيء من الصدقية على تهديدات أردوغان ترامب بإيجاد بدائل وخيارات استراتيجية مغايرة للشراكة المختلة وغير المتكافئة، بل والمهينة مع واشنطن.
ولما كانت دورة تصنيع منظومة «إس 400»، على نحو مشترك بين الروس والأتراك، تستغرق ما يربو على حول كامل، سيكون في مقدور الرئيسين بوتين وأردوغان التوافق خلال هذه المدة حول قاعدة عدم اشتراط تزامن توقيع عقد «المعاملات التعويضية» مع إبرام الصفقة أو اتفاقهما في شأن تأجيل تنفيذ ذلك العقد إلى مرحلة تالية من مراحل الصفقة المتعددة. وبينما تتنوع أجيال المنظومات الصاروخية من طراز «إس 400»، وتتعدد مستوياتها التقنية، فلن يستعصي على الجانب الروسي اختيار أقلها تطوراً من أجل تسليمه لتركيا، وإن تضمنت تلك الصفقة عقداً فرعياً، مؤجلاً ومبتسراً ومشروطاً، في ما يتصل بـ «المعاملات التعويضية» التي لن تتخطى بعض التقنيات الأكثر تواضعاً لجهة التعقيد والتطور التكنولوجي، كأنظمة الإمداد بالطاقة، وتصميم الهياكل، ونظام الخدمات والإصلاح، وأجهزة المحاكاة. وربما يعزز سلامة طرح كهذا، إطلاق الرئيس التركي تصريحات مناقضة لتلك التي أعلن خلالها وزير خارجيته استعداد أنقرة لإبرام صفقة لشراء نظام دفاع صاروخي آخر من دولة أخرى كنظام «باتريوت» الأميركي حالة عدم موافقة روسيا على مبدأ «المعاملات التعويضية» بصفقة «إس 400»، حيث أكد أردوغان خلال تصريحات أدلى بها على متن طائرته عائداً من زيارة أوكرانيا وصربيا في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، على تقبل بلاده المطلب الروسي الخاص بعدم تطبيق شرط «المعاملات التعويضية»، خلال المرحلة الأولى من الصفقة، على أن يؤجل حتى المرحلة الثانية، مشيراً إلى أن محادثات أخرى تجرى مع الروس في شأن صفقة جديدة لشراء منظومة «إس 500»، الأكثر تطوراً.
وإذا انتهى الأمر على هذا النحو، سيكون في مقدور موسكو ضرب ثلاثة طيور بحجر واحد، حيث سيتسنى لها توجيه صفعة لواشنطن التي فرضت عليها عقوبات جديدة كما ستخطو خطوة وثابة على درب تعزيز الثقة المتبادلة مع أنقرة وتعميق التقارب الاستراتيجي الحذر معها، مع كبح جماح أي تصعيد متوقع في التوتر الأميركي الروسي المتجدد.