لم يكن اصدار القضاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية في حق حاكم مصرف لبنان #رياض سلامة امس تطورا خطيرا في مسار الملاحقة القضائية الفرنسية والأوروبية لسلامة فحسب، بل تمددت مفاعيل هذا التطور ضمنا الى الداخل اللبناني المأزوم من جهات متعددة. اذ ان تداعيات الادعاء على الحاكم دهمت السلطة السياسية الحكومية، كما السلطة القضائية المعنية بقوة ومباشرة باتهامات “التغطية” على تغيب سلامة عن المثول امام القضاء الفرنسي في باريس، كما دهمت المشهد الداخلي برمته لجهة قلب الأولويات. ولم يكن خافيا امام التداعيات الخطيرة للادعاء الفرنسي واصداره مذكرة توقيف دولية في حق سلامة، ان يغدو ملف الحاكم وخلافته ولو بعد حين الحدث المتوهج الطارئ الفارض نفسه وتداعياته على الواقع الداخلي بحيث لم يعد ممكنا القفز فوق هذا الحدث والتعامل معه كأولوية فورية نظرا لاستثنائية هذا التطور الذي تزامن مع تقدم العد العكسي لبت شبح ازمة ملء الفراغ الذي ستحدثه نهاية ولاية سلامة في تموز المقبل. وتخوفت أوساط معنية سياسية ومصرفية من ارتدادات سلبية للغاية لهذا التطور اذ لا يعقل التصور ان يصبح ملف حاكمية مصرف لبنان اشد الحاحا من انهاء ازمة الشغور الرئاسي بما يخشى معه ان يشكل عامل استغلال وتوظيف سياسيين إضافيين للمضي في تمديد ازمة الشغور الرئاسي. اما في الجانب المالي من المشهد، فان الأوساط المعنية تترقب مسار الأمور في الأيام الطالعة مع حذر شديد حيال المناخ السياسي الذي سيواكب هذه التطورات انطلاقا من اللغط الكبير الذي يغلف التقديرات حيال ملء منصب الحاكم الذي بدأت مواقف سياسية تطالب باستقالته الفورية قبل نهاية ولايته.
اذاً الحدث الجديد الذي طغى على مجمل المشهد الداخلي امس تمثل في إصدار القضاء الفرنسي مذكّرة توقيف دولية بحق سلامة في سياق ملفات الفساد التي يحقّق فيها القضاء الأوروبي، وقبل فترة قصيرة من انتهاء ولايته في المصرف المركزي.
وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية أصدرت القاضية الفرنسية المكلّفة التحقيق في أموال وممتلكات سلامة في أوروبا، أود بوريزي، مذكرة توقيف دولية بحقه امس بعد تغيّبه عن جلسة استجوابه أمامها في باريس، على إثر فشل القضاء اللبناني في إبلاغ سلامة وفق الأصول بوجوب مثوله أمام القضاء في باريس. ومع فشل تبليغ سلامة، ساد توقع بألا يحضر الجلسة.
وكان يرجح ان يؤدي مثول سلامة امام القاضية اود بوريزي الثلثاء الى توجيه اتهامات اليه وبعد تغيبه امس كان امام القاضية خيار اصدار امر استدعاء جديد، لكنها قررت اصدار مذكرة توقيف دولية في حقه. وقال محاميه بيار- اوليفييه سور لوكالة فرانس برس ان تغيب موكله يعود الى عدم تبليغه بوجوب المثول امام القضاء الفرنسي وفق الأصول. ورفض اصدار مذكرة التوقيف قائلا ” ببساطة أرى ان هذا محض إساءة استخدام للسلطة “. وستنظر محكمة الاستئناف في باريس في وقت لاحق من هذا الشهر في شرعية مصادرة دول الاتحاد الأوروبي بعض أصول سلامة.
ولم تتضح على الفور تداعيات مذكرة التوقيف خصوصا وان لبنان لا يسلم رعاياه. وقال مصدر قضائي لبناني لوكالة فرانس برس ان القانون اللبناني لا يجيز تسليم مواطن الى بلد اخر وعندما ترد مذكرة التوقيف الدولية عبر النشرة الحمراء سيطلب القضاء اللبناني من الجانب الفرنسي الملف الذي يتضمن المعطيات والمستندات التي بنت عليها القاضية بوروزي قرارها. واذا ثبتت صحة هذه الأدلة عندها يبدأ القضاء اللبناني ملاحقته في لبنان باعتباره صاحب الصلاحية في مثل هذه القضية .
رد سلامة
وسارع سلامة الى الرد فاصدر بيانا اعتبر فيه أن هذا القرار “يخرق أبسط القوانين لكونه لم يراع المهل القانونية المنصوص عنها في القانون الفرنسي”، مؤكداً أنه سيطعن به. واتهم القاضية بانها “تجاهلت بشكل صارخ القانون، وتجاهلت أيضاً تطبيق إتفاقية الأمم المتحدة لعام 2003 والإجراءات المعترف بها دولياً التي تستند إليها هي بالذات في إطار المساعدة القضائية الدولية”، متسائلاً “هل يعقل أن قاضياً يطبّق الإتفاقات الدولية بإتجاه واحد؟”. وأضاف “أصبح واضحاً من جميع الأحداث التي رافقت التحقيقات الفرنسية أنها تعاكس مبدأ قرينة البراءة في تعاملها، وفي تطبيقها الإنتقائي للنصوص والقوانين، فبات جلياً أن حضرة القاضية الفرنسية السيدة أود بوروزي أخذت قرارها بناء على أفكار مسبقة دون إعطاء أي قيمة للمستندات الواضحة المبرزة لها”. وذكّر أن “التحقيق الفرنسي ضرب صفحاً عن مبدأ جوهري يتعلق بسرية التحقيقات، كونه أصبح واضحاً من المقالات الصحافية، وخاصة المقالات الصحافية الصادرة مؤخراً، ومنها تلك التي نشرتها “رويترز” بتاريخ 2023/04/21، أن الوكالات الصحافية تحصل دون قيد على وثائق التحقيق السرية كما تأخذ علماً مسبقاً بنوايا المحققين والقضاة”. وخلص قائلاً: “هذه هي عدالة الكيل بمكيالين التي تطبّق عليّ”.
واثار اصدار المذكرة أصداء داخلية اذ اعتبر المكتب السياسي لحزب الكتائب ان “السلطة الحاكمة تضع لبنان مجددا في مواجهة مع المجتمع الدولي للهروب من جرائم ارتكبتها وآخرها التواطؤ مع حاكم مصرف لبنان لانقاذه من المثول امام القضاء في فرنسا”. ورأى “أنّ ملاحقة سلامة أمام القضاء يجعل بقاءه في منصبه أمراً غير مقبول ويحتم استقالته وغير ذلك يشكل إهانة جديدة للشعب اللبناني الذي كان الضحية الأولى للجرائم المالية التي ارتكبها بالتكافل والتضامن مع اصحاب النفوذ”. كما ان “تكتل لبنان القوي” اعتبر أن إصدار مذكرة التوقيف الغيابية بحق سلامة “يشكل تحولاً هاماً في مسار مكافحة الفساد أما المؤسف في المقابل فهو تهرّب قاضي التحقيق اللبناني من القيام بواجباته لجهة التحقيق في ملفات تعني اللبنانيين الذين سُرقت أموالهم، ورفضه إبلاغ رياض سلامة بإستدعائه الى فرنسا، بعدما حاولت المنظومة السياسية بوسائل عدّة اعطاءه الحجج لعدم الذهاب الى فرنسا، علماً أن المادة 148 من الأصول الجزائية توجب إبلاغ الشخص لصقاً وبذلك يعتبر الشخص مبلغاً أصولاً”. ودعا النائب مارك ضو سلامة “احترامًا للدستور وللمؤسسات الحكومية ولمصرف لبنان بما يمثّلون بالنسبة للشعب اللبناني وللشرعية والسلطات في لبنان والخارج الى الاستقالة فورًا حفاظًا على مؤسسات الدولة واحترامها”.
بين بري و”القوات”
وسط هذه الأجواء لم يطرأ أي جديد بارز على المشهد السياسي المتصل بأزمة الشغور الرئاسي. وبرز في هذا السياق تاكيد عضو “كتلة التنمية والتحرير” النائب ميشال موسى ان رئيس مجلس النواب نبيه برّي “حدّد مواصفات الجلسة المقبلة أن تكون جلسة منتجة ولا تكون تكراراً للجلسات السابقة ولكن حتى الآن هذه المواصفات غير متوافرة”. وأشار إلى أنّ “المهلة التي حدّدها الرئيس برّي بـ15 حزيران هي مهلة حثّ ولا سيما أنّها تأتي بعد القمة العربية وبعد الاجتماع الخماسي حول لبنان”.
في المقابل ردت الدائرة الإعلامية في حزب “#القوات اللبنانية” بحدة على الرئيس بري قائلة ” أنتم في موقع رئاسة مجلس النواب، ولستم في موقع رئاسة المعارضة، وبالتالي من واجباتكم، ومنذ اللّحظة الأولى، الدعوة إلى جلسة نيابية مفتوحة لانتخاب رئيس للجمهورية، خصوصًا عند اقتراب انتهاء المهلة الدستورية لهذه الانتخابات، وإبقاء الجلسة مفتوحة حتى انتخاب الرئيس العتيد، بينما ما أقدمتم عليه هو أنكم كنتم توجّهون الدعوة ظاهريًّا لجلسات انتخاب، بينما عمليًّا يقوم نوابكم ونواب حلفائكم بتعطيل هذه الجلسات، وما زلتم مستمرين على هذا المنوال حتى اللحظة. دولة الرئيس بري، أنتم لا تقومون بواجباتكم من جهة، وتتخطون من جهة أخرى صلاحيّاتكم من خلال تنصيب أنفسكم قيّمين على الموالاة وعلى المعارضة في آنٍ معًا، وهذا ليس من صلاحياتكم أبدا. ليس من شأنكم، دولة الرئيس، التدخُّل في ما تفعله المعارضة، بينما من واجباتكم الدعوة إلى جلسة انتخابات فعلية لرئيس الجمهورية. وحرصًا على معلوماتكم، دولة الرئيس، فإن المعارضة كفيلة بتدبير أمورها بنفسها وهي جاهزة في كل لحظة للذهاب إلى جلسة انتخابية، ولكن أنتم بالفعل لا توجّهون الدعوة إلى جلسة انتخابات جديدة ليس لأنّ قلبكم على المعارضة، بل لأنكم واثقون من أنّ أرقام مرشحكم الرئاسي ليست أبدًا كما تشتهونه” .