لا ينام لبنان واللبنانيون “على همّ عتيق”، واذا كانت ازمته السياسية والمالية والاقتصادية تشكل الثابت اليومي المحوري، فان مشتقات هذه الازمة وتداعياتها لا تحجب مظاهر تفلت وتسيب يطلقان أسوأ الصور لبلد فاقد المناعة القانونية والأمنية والدستورية الى حدود تتجاوز صور الحرب الغابرة. ما جرى في يوم الجنوب الاغرّ امس لا يقل عن افدح الفضائح وأشدها تسبباً بالاذى والضرر بحيث صدرت صورة الجنوب كأنها منطقة سائبة بين استقواء “#حزب الله” وترسانته المسلحة الثقيلة عبر استعراض مسلح حدودي موجه ضد إسرائيل حتما، لكن رسائله الداخلية بدت اشد وطأة، وبين هجمة متشددة للتعصب والتشدد الديني في #صيدا تحول الى ترهيب موصوف يراد منه الزج بالمدينة في غياهب التخلف والانغلاق والافقار والتقوقع.
والحال ان هاتين الواقعتين في منطقة الجنوب حجبتا الى حدود واسعة الاجندة المرتقبة للأسبوع الطالع والتي تتصدرها متابعة ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عبر الاجتماع الوزراي التشاوري الموسع الذي سيعقد اليوم في السرايا الحكومية. اما المعطيات المتصلة بالازمة الرئاسية فتبدو كأنها تدور على نفسها من المراوحة والعقم اذ تراجعت الرهانات على اختراق يشكله اتفاق قوى المعارضة و”التيار الوطني الحر” على مرشح موحد على نحو دفع النائب الان عون الى اعلان “طي صفحة ترشيح جهاد ازعور” وتزامن ذلك مع اللقاءات التي يجريها رئيس “التيار” النائب جبران باسيل في باريس.
استعراض “الحزب”
وفي ما يتصل بما سمي مناورة “حزب الله” في الجنوب فانها لم تكن محدودة ولا رمزية، بل بدت بحجم الأسلحة الثقيلة والصواريخ والمسيرات التي عرضت فيها، كافية لاطلاق ما أراد الحزب اطلاقه من رسائل نحو إسرائيل من جهة ونحو الداخل من جهة ثانية ونحو العرب والاقليم والدول من جهة ثالثة. ومع ان المناورة كانت مقررة في اطار نشاطات لاحياء “ذكرى التحرير” في 25 أيار، فان ذلك لم يحجب الدلالات الرمزية والواقعية أولا لجهة استفزازها الواقع السيادي لدولة اختبأ رموزها وغابوا عن التعليق عنها، وثانيا لمصادفتها غداة قمة جدة العربية التي حمل إعلانها الختامي في البند السادس منه رفض ظاهرة الميليشيات داخل الدول، فأوحت المناورة بانها رد مباشر سريع على موقف القمة وتاليا عدم تبديل أي شيء في الستاتيكو القائم والمستمر بعد التفاهم السعودي الإيراني.
المناورة التي جرت في بلدة عرمتا الجنوبية ضمن معسكر تابع لـ”حزب الله”، وهي منطقة تقع خارج نطاق القرار الدولي 1701، شهدت استعراضات بالدبابات، إضافة إلى محاكاة هجوم نحو الأراضي الإسرائيلية، وتم عرض آليات عسكرية، وراجمات صواريخ متوسّطة وبعيدة المدى. وفي المناسبة هدد رئيس المجلس التنفيذي في “حزب الله” السيد هاشم صفي الدين بـ”امطار إسرائيل بالصواريخ الدقيقة” وتوجه في كلمة له الى رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو وحكومته بالقول :”إذا فكّرتم في توسيع عدوانكم للنيل من المعادلات التي صنعناها بدمائنا وقدرتنا، فإننا سنكون جاهزين لنمطركم وستشهدون أياماً سوداء لم تروا لها مثيلاً، وعلى “الإسرائيلي” أن يعلم جيداً أننا نقصد ما نقول”. واضاف:”لا ضرورة لعرض الصواريخ الدقيقة اليوم وهي موجودة لدينا بكثرة، لان العدو سيرى فعلها في قلب كيانه اذا ارتكب اي حماقة يتجاوز فيها قواعد اللعبة”، وقال :”اذا تجاوز العدو قواعد اللعبة سوف نمطر هذا الكيان بصواريخنا الدقيقة وكل اسحلتنا”.
وعلّق المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على المناورة وقال: “بعيدًا عن الشعارات التي يسوقها محور المقاولة وأبواقه، فإن مناورة حزب الله في جنوب لبنان تتحدّى بالمقام الأول الحكومة والدولة اللبنانيتيْن والتزاماتهما. أما التهديدات فتعوّدنا عليها ممن انكشف دوره التخريبي في قتل اللبنانيين والسوريين والعرب وتنفيذه أجندات إيرانية في العالم العربي”.
واثار العرض المسلح للحزب ردود فعل سياسية لدى مناهضي الحزب و”دولته” فغرد رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل عبر تويتر فكتب: “مناورات حزب الله في الجنوب رسالة تحد للبنانيين اولاً والقمة العربية ثانياً وصورة للوطن الذي ينتظرنا اذا ما كرّست هيمنته على البلد”. وتوجه الجميّل للمجتمع العربي والدولي قائلًا:” هل تقبلون ازدواجية سلاح ومناورات عسكرية وخطف قرار الدولة في بلادكم؟”. وأكد “أننا لن نخضع لسطوة السلاح، ولا لتوظيف أرضنا وشبابنا في خدمة الخارج.”
واعتبر نائب رئيس حزب “القوات اللبنانية” النائب جورج عدوان أن “هناك جمهورية لبنانية في منطقة وجمهوريات أخرى تفرض قوانينها في مناطق أخرى ونحن نريد تطبيق القانون اللبناني”. واعتبر عدوان أن “حزب الله غير خاضع للقوانين اللبنانية ومناورة اليوم أكبر دليل”.
وسأل النائب ميشال معوض “كيف للبنان أن يستقلّ قطار النمو والاستقرار و حزب الله يناور و”يستعرض” أمام سلطة عاجزة حتى على الاعتراض ؟ وكيف للبنان أن يخرج من نفق الانهيار، ويعيد بناء الدولة والمؤسسات والاقتصاد وينفّذ الاصلاحات المطلوبة، وحزب الله مستمرّ بمنطق إخضاع الدولة والتعدّي على دستور وقوانين الجمهورية اللبنانية؟وكيف للبنان أن يفكّ عزلته ويعود الى الحضن العربي والدولي وحزب الله خاطف سيادته وقراره الاستراتيجي ضارباً بعرض الحائط بيان قمّة جدّة قبل أن يجفّ حبره؟”.
وبدوره اعتبر النائب اللواء أشرف ريفي انه “ليست مقاومة التي تنظم استعراضات عسكرية، بل أداة تمارس الهيمنة والرياء بإسم القدس التي هي منكم براء. لن ترهبوا أحدا بهذه العراضات، وسنكون في مواجهتكم، ولن نسمح لكم بتمديد عهد جهنم لست سنوات. تعقل يا “حزب الله”، فعصر الإستقواء إنتهى، وأغلبية اللبنانيين لن تسكت عن ميليشيا تحركها إيران . ما قمتم به اليوم يناقض روح ونص إتفاق الطائف، تذكروا أن مقررات القمة العربية في جدة لم يجف حبرها بعد”.
صيدا
اما ما شهده الشاطئ الصيداوي امس ، فوضع المدينة على حافة “فتنة” دفع في اتجاهها رجال دين متشددون وبدت أحزاب صيدا وهيئاتها السياسية وبلديتها اعجز من مقاومتهم في فرض خط “ترهيبي” للتشدد والتعصب واقفال مسارب الانفتاح. وقد اقام المتشددون “طقوس” القمع الترهيبي بمحاولاتهم منع مجموعات من الناشطات المطالبات بحرية السباحة ومواجهة الاعتداء على هذه الحريات التي رضخت لها البلدية بتعميم يكاد يتبنى المطالب المتشددة لـ “هيئة العلماء المسلمين” كافة. وذهب احد مشايخ هذه الهيئة الى وصف الفتيات والسيدات والشباب المطالبين بحقهم في السباحة في مسبح صيدا الشعبي بلباس البحر “بانهم اهل العري والفسق والفجور” فيما انبرى شيخ اخر لـ”يفتي” بان السباحة “تحد لله” ! وبعد جهد جهيد للقوى الأمنية حال دون الصدام بين الفريقين انفضت المواجهة عن واقع قاتم يظهر صيدا تحت رحمة اقلية متشددة قادرة على ترهيب المدينة .
اما في مشهد الازمة الرئاسية فبدا لافتا امس تصعيد البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي سقف انتقاداته اللاذعة للنواب بتعميم شامل اذ قال : “كم يؤسفنا أنه لا يوجد نائب واحد في الكتل النيابية يجرؤ، بقوة “اعتراض الضمير” على إدانة تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية منذ سبعة أشهر، وإفقار الشعب وتهجيره، وهدم الدولة بمختلف مؤسساتها، بسبب رهن مقام رئاسة الجمهورية لشخص أو لمصالح شخصية أو فئوية! ولكن بكل أسف، خنق المسؤولون السياسيون فيهم صوت الضمير، صوت الله، فمن أين يأتيهم “إعتراض الضمير” الذي أسكتته مصالحهم. فيا ليتهم يقرأون سيرة القديس Thomas More رئيس حكومة بريطانيا العظمى الذي جابه الملك هنري الثامن باعتراض الضمير، ورضي بقطع رأسه حماية لصوت ضميره. وقد أعلنته الكنيسة شفيع رؤساء الحكومات ورجال السياسة. فلنصل لكي يرسل الله حكاما أصحاب ضمير يمجدون الله بأفعالهم ومواقفهم البناءة والشجاعة”.