كان يمكن ان تشكل جلسة المناقشة العامة للحكومة التي بدأها أمس مجلس النواب على ان يستكملها اليوم، علامة فارقة في مسار المحاسبة النيابية المنوطة بالبرلمان وخصوصاً وسط افتقاد هذه الجلسات منذ زمن طويل وفي ظل مناخ سياسي واجتماعي واقتصادي مأزوم وتصاعد غير مسبوق لروائح الفساد في كل الاتجاهات التي تنخر الدولة والمجتمع. بيد ان انعقاد الجلسة على مشارف نهاية ولاية المجلس الممدد لنفسه مرتين والتي تنتهي بعد شهرين وأيام قليلة، أفقد الفرصة “الديموقراطية” كل عوامل الصدقية والثقة ولو تبارى النواب من مختلف الاتجاهات السياسية والكتل النيابية في التصويب على الفساد وفضائحه أسوة بتركيزهم على قانون الانتخاب الجديد من منطلق تعميم التحذيرات من مغبة السقوط في الفراغ أو نشوء أزمة دستورية وسياسية كبيرة.
والحال ان جلستي النهار والمساء اللتين عقدهما المجلس شهدتا عرضاً مسرحياً للمحاسبة المزعومة من منطلق وقائع كثيرة ربما كان أبرزها أولاً عامل الزمن والتوقيت. ذلك ان جلسة مناقشة ومساءلة على أبواب موسم انتخابي بل في مطالعه الفعلية ولو من دون يقين أن قانوناً جديداً للانتخابات سيبصر النور قريباً بما يكفل تحديد موعد ثابت للانتخابات، أسقطت بذاتها معظم العوامل الجدية التي تكفل للحملات الكثيفة التي شنها النواب على مختلف أوجه الفساد الصدقية الكافية. وبذلك ليس من باب المبالغة ان تظهر هذه الحملات، على خطورة ما تضمنته من فتح لملفات الفساد والنهب المنظم في قطاعات عدة كأنها “ثورة الأيادي النظيفة” ظاهراً يطلقها نواب يتوسلون الشعبية الانتخابية والدعائية لا غير. يكرّس هذه الحقيقة، ولو ظلمت بعض الأصوات “الصادقة”، ان حمى الغيرة على المال العام كانت مغيبة الى وقت طويل سابقاً.
ثم ان العامل الآخر الذي أرخى ذيول الشكوك على الكثير من مداخلات النواب تمثل في واقع الازدواجية الذي برز في شكل ساخر لدى معظم النواب المنتمين الى كتل مشاركة في الحكومة، علماً ان الحكومة تضم الأكثرية الساحقة من الكتل بما ينفي موضوعياً وجود معارضة واسعة كما أوحت القابلية المفتوحة على توظيف جلسات منقولة مباشرة عبر المحطات التلفزيونية.
أما العامل الثالث الذي طبع الجلسة بطابع كفل لها بعض الاثارة والتوهج فتمثل في الكشف العلني لوجوه كثيرة من النهب والفساد المتفشي في العديد من القطاعات بحيث يمكن ان يبنى على الاتهامات والكشوف المعلنة عشرات لجان التحقيق النيابية ناهيك باغراق النيابات العامة بعشرات الاخبارات في ملفات الفساد. المضحك المبكي في هذه الواقعة ان مجمل الدفق الاتهامي الذي ميز الجلسة لم يخترقه اتهام بالاسم لأي جهة بعينها أو شخص بعينه الا ما ندر من تلميحات خجولة. كما ان هذه الحمى لا تكفل لنواب بذاتهم المساءلة أقله عن حقب شاركوا فيها في جنات السلطة أو في اطار عملهم الرقابي والتشريعي. وأما الملفات “النجوم” في فتح ملفات الفساد فيمكن ابراز نماذج لافتة منها مستقاة من مداخلات نواب منها الحديث عن “جيش مياومين وموظفين لا عمل عملهم، وملف المباني المؤجرة للمؤسسات الرسمية الذي تنفق عليها الدولة مليارات الليرات من دون جدوى، وملف الرشى المنظمة التي قال النائب حسن فضل الله إن تواقيع سياسيين مرواً بالسلطة كانت تصل الى عشرة ملايين دولار، وملف النفط والغاز الذي أثار النائب روبير غانم ثم الرئيس نجيب ميقاتي موضوع اتهام متورطين في طلب مئة مليون دولار من شركة ايطالية لقبولها في المناقصة وسواها من “النماذج” الفواحة.
التمديد؟
واذ كانت الجلسة المسائية كادت ان تفجر اشتباكاً سياسياً حاداً بسبب تلاسن بين الرئيس فؤاد السنيورة والنائب في “كتلة الوفاء للمقاومة” نواف الموسوي برزت مداخلة النائب نقولا فتوش كتمهيد أولي موصوف للتمديد لمجلس النواب في حال تعذر التوافق على قانون انتخاب جديد. وأجمع عدد كبير من النواب على تأييد مداخلة فتوش الذي، وان أكد رفضه للتمديد، أسهب في شرح أخطار الفراغ وموضوع الصلاحيات الاستثنائية للحكومة وحذر من معالجة السيئ بالأسوأ. وقال نواب ان مداخلة فتوش حظيت “برضى” ورعاية لم يكونا خافيين على أحد. كما كشف هؤلاء ان اتصالات أجريت في كواليس المجلس تناولت أفق جلسة مجلس الوزراء الاثنين المقبل التي ستفتح ملف قانون الانتخاب وما يمكن ان ترتبه من احتمالات. وبدا من نتائج هذه المشاورات اثارة النائب وائل أبو فاعور موضوع التصويت على قانون الانتخاب والتمسك بالتوافق والامتناع عن التصويت. وأشار النواب انفسهم الى ان رئيس الوزراء سعد الحريري بدا متفهماً للاعتراض على التصويت وأعطى الفريق الاشتراكي ضمانات حول التوافق. وليلاً قالت مصادر معنية لـ”النهار” إن الاسبوع المقبل سيكون حاسماً في بت مأزق قانون الانتخاب، إذ ان انتظار ما ستفضي اليه جلسة مجلس الوزراء لن يطول واذا تبين ان التوافق سيبقى متعذراً على القانون الجديد فثمة اتجاه لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري الى الدعوة الى جلسة التمديد الخميس المقبل أي قبل الجمعة العظيمة وعيد الفصح لأن عامل الوقت الضاغط يملي التصويت على التمديد قبل منتصف نيسان من منطلق التحسب لرد رئيس الجمهورية قانون التمديد الى المجلس قبل حلول موعد اجراء الانتخابات بما يبقي للمجلس امكان إعادة التصويت عليه بالأكثرية بعد رده وفقاً للاصول.