Site icon IMLebanon

عذراً مجدّداً يا أمّ البشارة

 

 

كتب القاضي د. محمد النقري:

كتبت العام المنصرم مقالاً بمناسبة العيد الوطني الإسلامي – المسيحي لبشارة العذراء مريم عليها السلام، وتأسّفت لها معتذراً عن عدم إقامة الإحتفاليات بهذه المناسبة بعد أن كانت قد درجت العادة لدينا في لبنان بتنظيمها في كل سنة منذ عام 2007، وذلك بسبب جائحة الكورونا من جهة، ومن جهة ثانية وأساسية بسبب الأحداث الأليمة التي مرّ بها وطننا والتي باعدت بينه وبين أن يكون مثالاً يحتذى بين ثقافات العالم بالحوار والعيش المشترك. حتى أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار التي وافقت الأمم المتحدة بإجماع الآراء وامتناع أميركا وإسرائيل على أن يكون مقرّها في لبنان، لم يعد لها مبرّرها المكاني لسوء ما اقترفت أيدينا من سياسات فتنوية وكيدية دفعتنا الى تحويل بلدنا الى مستنقع للخلافات والنزاعات وموطناً لأحقر وأقذر ما يتوصل إليه المسؤول السياسي من انحطاط خلقي وفساد مالي في التاريخ البشري.

 

كتبت عن احتفالياتنا في السنوات الماضية إذ كانت تهتف بالمحبة وتتعانق فيها تكبيرات الأذان مع صوت أجراس الكنائس، وتتناغم الترانيم المريمية الكنسية مع الموشحات الدينية الإسلامية، ويتآخى المسلمون والمسيحيون في أبهى صورة عرفها التاريخ، واليوم كما في الأمس القريب تطلّ بشارتها علينا وبلادنا تئنّ تحت وطأة الفقر المدقع والفساد الإداري والمالي الشامل والمستشرس، والتهديدات الأمنية والتفجيرات التي قتلت المئات وهدّمت المباني والأحياء والموانئ البحرية، فأصبحنا اليوم نعيش في خضم صراعات فتنوية مقيتة، أفقدت بلادَنا كرامتها وصيغتها الوطنية وأتلَفتْ ضمائرَ مسؤوليها السياسيين، بل وفَقدَ فيها مواطنوها أموالهم وأرزاقهم ومدخراتهم وصحتهم وسمعتهم وعزّتهم وكرامتهم، فتوشحوا بلباس الفقر والعوز، والذل والهوان، وبات شبابنا يطرقون أبواب السفارات طلباً للهجرة، وأصبح أمل اللبنانيين تذكرة سفر بلا عودة، ومسكناً ولو مرقداً لعنزة في بلاد الغربة.

 

كانت عذراء الأمس مبتهجة بما أنجزناه في لبنان باسمها، وبما نشرناه في العالم من ثقافة محبتها واجتماع المسلمين والمسيحيين تحت عباءتها، باتت عذراء اليوم حزينة، تستجوبنا: هل كنتم حقاً أيها اللبنانيون على قدر هذه المناسبة؟ وهل كنتم صادقين متواضعين مع أنفسكم ومع شركائكم في الوطن؟ أم أدخلتم هذه المناسبة في زواريب الطائفية الضيّقة وعبرتم بها ضمن الألاعيب السياسية البغيضة؟… هل قمتم حقاً بتحقيق كل ما وعدتم به من مشاريع مثل:

 

– إطلاق اسم البشارة على احدى ساحات بيروت حيث حدّدتم ساحة المتحف ليحمل اسمي ووضعتم في زاويتها حجراً منقوشاً يحمل رمزية بشارة الملاك جبريل لي بأنه سيولد من رحمي كلمة الله وروح منه اسمه المسيح عليه السلام، ونظّمتم تجمّعاً رسمياً، بعد أن حصلتم على موافقة مبدئية من بلدية بيروت، وفجأة استبدلتم اسم البشارة لتحمل اسم البابا بندكتوس السادس عشر.

 

– تنفيذ طابع بريدي مريمي يحمل شعار البشارة، حظى بموافقة كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء في أكثر من مناسبة ولكنكم لم تنفذوه ولم تتابعوه.

 

– تشييد مركز مريمي للحوار على أرض تقدمها الدولة يضم قاعة محاضرات واجتماعات وأرشيف ومكتبة تخصصية في مواضيع الحوار ويجمع كل ما يكتب عني، وهو أيضاً لم تنفذوه.

 

أيتها الصدّيقة مريم، عذراً على تقصيرنا ولا مبالاتنا، بل عذراً على أنانيتنا وسعينا لركوب موجة الطائفية البغيضة وسعينا لتحقيق الإنتصار على بعضنا البعض، فهل لنا من عذر أن ما شغلنا عنك في الأمس كان صراخنا في وجه المسؤولين ومن بقي في قلبه وفكره ذرّة إيمان وعقل وضمير وشفقة ورحمة من بين الذين أعمتهم المناصب وكراسي الحكم وهيمنة الأحزاب، وغشت أبصارهم السرقات والسمسرات والإستيلاء على خزائن الدولة والأموال العامة وأموال المودعين.

 

واليوم نجدّد اعتذارنا منك لنعيد الكرّة ونصرخ في وجه المسؤولين: ألا يوجد بينكم رشيدٌ حكيمٌ ذو ضمير، ومصلحٌ ذو هيبة وسلطة وحسن تدبير، ألا يوجد فيكم رئيس يقول لمواطنيه: لا ترحلوا فالأرض أرضكم والجبال جبالكم وسماء الرب تحتضنكم، وأرض الأنبياء تحرسكم، ومريم العذراء تجمعكم؟!

 

نجدّد اعتذارنا لك يا مريم يا أم المسيح، أيتها البتولة والصدّيقة، يا من رفعك القرآن الى أعلى المراتب بأن وصفك بأنك أفضل نساء العالمين على الإطلاق، ويا من تعالت التسبيحات والتهليلات هاتفة بإسمك المجيد عند كل مناجاة وفي كل ترنيمة إنجيل. أعترف لك بتقاعسنا وأهمالنا وأنانيتنا بسبب ما أدخلناه في محبتك من أهواء طائفية دينية وحزبية سياسية وشخصانية نفسية، ففشلنا في نشر المحبة ولملمة القلوب العطشى للمؤمنين ببشارتك وقدسيتك ومكانتك بين نساء العالمين وعند المؤمنين بك من مسلمين ومسيحيين. نستسمحك أيتها البتول الصدّيقة، فنحن أبنائك وننتظر منك الصفح والمسامحة طامعين منك من مكانك السماوي أن تقبلي إعتذارنا واعترافنا بأخطائنا… فمن من الأبناء لم يخطأ، ومَن من الأمهات لم تصفح وتسامح، كتلك الأم التي طعنها إبنها في قلبها بالخنجر وعندما تعثّر ووقع على الأرض صرخت وهي تحتضر : ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟!

 

إن كان لنا قليل من العذر، فهل يشفع لنا ما يعصف بنا في لبنان من أحداث وآلام، فلقد أضنانا ونغص عيشنا أن نشعر بالقلق والإضطهاد والشك والرغبة في الهجرة بعيداً عن أرزنا وشموخ جبالنا وعنفوان سهلنا وبقاعنا، وعزّة وكرامة مدننا، بل بعيداً عن سماع أصوات صلواتنا تصدح من مآذننا وكنائسنا.

 

ولكننا لن نفقد الأمل والرجاء وسنهتف في كل بشارة: كل عام وأنتم مسلمو ومسيحيو لبنان وكل العالم بألف خير.