في الذكرى المئوية لولادته، يعيش لبنان مخاضاً جديداً يفترض أن يحمل عنواناً واحداً هو مشروع بناء الدولة. نعم، مرت مئة سنة والدولة المرتجاة لم تبصر النور لا بل هي تزداد ضعفاً ووهناً مع مرور الزمن.
في المجتمعات المتنوعة كالمجتمع اللبناني وعلى عكس حسابات بعض القوى السياسية، قيام الدولة شرط ضروري لتنظيم العلاقات السياسية ولتحقيق التطور والتقدم. ثمة أطراف لبنانية تسير دوماً في عكس هذا الاتجاه وتراكم قوتها على مختلف المستويات فتزيد من هشاشة الدولة وضعفها. لكن المفارقة أن أكثر هذه الأطراف قوة تجد نفسها بحاجة إلى الدولة وأجهزتها الأمنية والقضائية عند منعطفات معينة لأن قوتها تصبح محدودة في بعض النواحي داخل بيئتها ومجتمعها.
لقد دار فائض القوة دورته الكاملة على مختلف الفرقاء والطوائف قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها، ومارسته القوى المختلفة وفقاً لرؤيتها للبنان ودوره الإقليمي وموقعه من النزاعات الإقليمية. وعندما بالغت تلك القوى في السعي لاستثماره في الداخل اللبناني، اختلت التوازنات الدقيقة التي يقوم عليها الاستقرار اللبناني وولدت دورات من العنف ثم العنف المضاد وهبطت بالبلاد نحو منزلقات خطيرة كان أصعبها وأشرسها وأكثرها تعقيداً الحرب الأهلية الطويلة التي دمرت لبنان واقتصاده وموقعه وأعادته سنوات إلى الوراء.
إلا أنه، في كل مرة، كان يعاد تثبيت المعادلات الداخلية أو يعاد رسمها وفق موازين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في تلك اللحظة السياسية. وفي كل مرة، أيضاً، كان اللبنانيون يدفعون الثمن وتتفاوت الكلفة الباهظة لهذه الأثمان بحسب حجم الصراع وعمقه وشموليته وأضراره وخسائره. إنما النتيجة واحدة دائماً: جلوس الأطراف اللبنانية على طاولة الحوار ودائماً برعاية خارجية (داخل أم خارج لبنان)، واستيلاد اتفاق الضرورة وتفاهم الممكن!
لقد أدت كل المغامرات العسكرية خارج هذه الأطر والعناوين إلى التدمير الذاتي وقد تلاشت مسبباتها لصالح المساحة المشتركة بين اللبنانيين. هذا الكلام ليس نظرياً بل هو خلاصة تجارب متلاحقة أعادت صياغة الواقع الداخلي وفق حسابات وموازين قوى فرضت نفسها، لكنها لم تستطع تجاوز وحدة البلاد وضرورة قيام الدولة.
في آب 1975، أطلق كمال جنبلاط والحركة الوطنية اللبنانية “البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي” الذي شكل محاولة سياسية جدية وعميقة لتجاوز عثرات النظام القائم على الطائفية والمذهبية وغياب العدالة الإجتماعية والتفاوت الإنمائي بين المناطق. كما أنه تطرق إلى قضية بغاية الأهمية تتعلق باستقلالية القضاء الذي هو المدخل الجدي لأي تغيير منتظر ولقيام مشروع الدولة المرتجاة.
للأسف، أتت الحرب الأهلية والدخول العسكري السوري سنة 1976 بمباركة أطراف لبنانية للقضاء على هذا المشروع الذي شكل حجر الزاوية في الإصلاح السياسي، والذي لا تزال بنوده صالحة حتى يومنا هذا، ولعل هذه واحدة من أكثر المفارقات قسوة أن تكون برامج إصلاحية وضعت في منتصف السبعينات لا تزال صالحة حتى يومنا هذا! فهل سنحتاج إلى مئة سنة أخرى؟