ليس الإقرار العربيّ بأهميّة لبنان أمراً سهلاً. السائح قد يتحدّث عن «جماله». التاجر والمستثمر قد يتغنّيان بحرّيّاته الماليّة والمصرفيّة. لكنّ السياسيّ والمثقّف يكابدان حين يُضطرّان إلى تسجيل ما هو مميّز فيه. المثقّف السوريّ الراحل ياسين الحافظ كان من النادرين الذين احتفلوا بالحرّيّة في هذا البلد، وبوضع المرأة فيه، وبحال الأحزاب والصحافة والنقابات، بل بدور لبنان في تغييره هو شخصيّاً.
أسباب التجاهل أو الإنكار كثيرة ومتباينة: تأثيرات الوعي القوميّ – اليساريّ تجعل الاعتداد بكيان صغير، منزوع القوّة، أقرب إلى الهرطقة. الديموقراطيّة البرلمانيّة لم تكن موضوعاً مُلحّاً في هذه البيئة. الجهر بالطائفيّة المكتومة في الجوار بدا جارحاً للسرديّة القوميّة ونرجسيّتها. الاحتكاك بالغرب، على عكس ما رأى ياسين الحافظ، عُدّ نقيصةً ومأخذاً لأنّ الغرب مجرّد إمبرياليّة وسياسات تدعم إسرائيل. الدور الخاصّ تقليديّاً لمسيحيّي لبنان قوّى الحذر والتحفّظ.
وكمثل السياسيّ والمثقّف، كرهت الكتل السكّانيّة الأعرض، الفلسطينيّة والسوريّة، لبنان. لكنّ هذا صدر عن أسباب مختلفة، أكثر منطقيّة وأقلّ أيديولوجيّة من أسباب المثقّفين والسياسيّين. هذه الكتل وُضِعت أصلاً خارج دورة الحياة اللبنانيّة: في مخيّمات أو في شروط إقامة بائسة ومهينة يكاد يستحيل تغييرها إلّا إلى الأسوأ. ما يصلها من لبنان هو التعرّض للتهميش والشقاء والتعالي والعنصريّة وتسلّط الأمن والأمنيّين. في الخمسينات والستينات تأدّى هذا السلوك حيال الكتلة الفلسطينيّة المحاصَرة في مخيّماتها البائسة إلى إغرائها بحمل السلاح وإلى أدلجة نزاع أهليّ والإمعان في تسييسه وتجذيره. وبالطبع، كانت هناك أنظمة مأزومة جاهزة للتزويد بالسلاح وبالأيديولوجيّات السلاحيّة.
مع الكتلة السوريّة اليوم، ليس معروفاً إلى أين ستسير الأمور. لكنّ المؤكّد أنّها تسير في وجهة بشعة جدّاً قد ترمز إليها صورة الشبّان السوريّين في عرسال قبل أسبوع. بضع صور أخرى من هذا النوع، على إيقاع «الحرب على الإرهاب»، كفيلة بنشر السمّ في أدنى البقاع اللبنانيّة وأبعدها.
معاملة الفلسطينيّين قبل أن يتسلّحوا، والسوريّين اليوم، حقيقة موجعة أخلاقيّاً وإنسانيّاً بالطبع. لكنّها موجعة سياسيّاً أيضاً. فالمصالحة بين كتل سكّانيّة اضطرّت للنزوح من بلدانها لأسباب فُرضت عليها وبين النموذج الوحيد في العالم العربيّ الذي نجا من الخيارين العسكريّ والسلاليّ ضرورة مُلحّة، لكنّها ضرورة لم يُتح لها أن تتحقّق. الكراهية المتبادلة هي التي حلّت بدل اللقاح الذي يجمع بلداً صُنع للحرّيّة وجماعات طالبة الحرّيّة والكرامة. التكوين الطائفيّ في لحظات احتدامه وتأزّمه، وما يرافقه من مخاوف ومحاذير تتّصل بالعدد، منع تصدير ما هو متقدّم في النموذج اللبنانيّ إلى نطاق أعرض. اللبنانيّون بدوا أسوأ وأضيق أفقاً من أن يصدّروا لبنان. في الآن ذاته، وردّاً على السياسات الطاردة والنابذة، والسلوكات العنصريّة الهائجة، لم يعد الفلسطينيّ والسوريّ معنيّين باستيراد ما هو متقدّم في هذا النموذج. التمسّك بموروثاتهم الأهليّة وبالفتات الذي وصلهم من الأيديولوجيّات الخردة، ذات السهم الكبير في مأساتهم، تبدّى لهم الملاذ والخلاص.
أكثر ما يُخشى، والحال هذه، أن ننتهي إلى ما يشبه نظاماً لبنانيّاً للأبارتايد يوهم اللبنانيّين بأنّهم، من خلاله، يتغلّبون على مشاكلهم التي «سبّبها الغريب»، ويصبحون «مهمّين» و «متمدّنين». يقابل ذلك تحويل الضحايا الوافدين إلى جيش رثّ يمضغ التفاهات السهلة للمثقّفين والسياسيّين العرب في هجاء لبنان. وهذا، في الكمون أو في العلن، مشروع حرب أهليّة تتناسل حروباً، فيما المنطقة وزمنها لا يفتحان أذرعتهما إلّا لاحتمال كهذا.