IMLebanon

آخر خطاب كبير لرئيس أميركي كبير

قد نكون مع خطاب “حال الاتحاد” الأخير أمام آخر خطاب كبير يلقيه باراك أوباما كرئيس وهو الآخِذ لا فقط بالاستعداد للخروج من البيت الأبيض بعد أقل من سنة وإنما للتحول إلى “أسطورة” حية من “الأساطير” المعاصرة الكثيرة التي ساهمت في صناعة الموقع الفريد للولايات المتحدة الأميركية في العالم وعبر هذا الموقع في تشكيل الثقافة السياسيّة لهذا العالم الجديد. لماذا؟

الخطاب كبير على أكثر من مستوى.

الأول في قوة تعبيره لا عن قيادة أميركا للكرة الأرضية فقط بل أيضا عن الاتجاه الذي يسير نحوه العالم اقتصاديا وسياسيا وعلميا. والأدق الاتجاهات الصراعية لهذا العالم.

وخلافا للرأي التبسيطي السائد لدى العديدين المعارضين لتوجهاته ولاسيما في الشرق الأوسط فهو خطاب انخراط عميق للسياسة الخارجية الأميركية مسرحه الأساسي شرق آسيا والمحيط الباسيفيكي كمركز الثقل الجيوبوليتيكي والاقتصادي على المستوى الدولي. فهو يقول بوضوح، مفاجئ بعض الشيء أن يُعلن عنه بهذه الطريقة: -” في تلك المنطقة نحن من يضع- بمعنى يُملي أو يفرض- “قواعد الطريق” عبر معاهدة “الشراكة عبر الباسيفيكي” ( TPP) وليس الصين”- داعيا الكونغرس إلى دعم البيت الأبيض في هذا الخيار.

هو يعلن بوضوح أيضا علينا أن نفكِّر كثيرا في نتائجه، خصوصا نحن في العالم العربي والشرق الأوسط، أن الخطر الرئيسي في عالم اليوم لم يعد “إمبراطوريات الشر” وإنما “الدول الفاشلة”. وهذا إعلان إنهاء أو طي صفحة رسمي وأخير لأيديولوجيا اليمين المحافظ الأميركي و” المحافظين الجدد” بعد حقبة التركيز على ” إمبراطوريات الشر”.

وبينما هو يعيد التأكيد على إنجازه في الاتفاق النووي مع إيران وعلى التزام إيران به يطمئن الأميركيين إلى أي موقع تتميّز به أميركا حين يقول أن العالم يتوجه إلى واشنطن لطلب المساعدة والتوجيه وليس إلى موسكو وبكين.

عالم جديد، جيوبوليتيك جديد؟ نعم حين يؤكد الرئيس الأميركي أن الولايات المتحدة حقّقت نسبة 60 بالماية من الاستغناء عن النفط الأجنبي، أي النفط غير الأميركي؟

ربما، إذا كان لهذا الرقم أن يتزايد، يمكننا القول أنه كلما ارتفعت هذه النسبة كلما انهار أو تغيّر وضعٌ سياسيٌ – أو خارطة ما- في الشرق الأوسط ولاسيما في العالم العربي.

في هذا المنحى الجديد، لا يتجاهل الرئيس باراك أوباما الخطر الإرهابي “الإسلامي” الذي يحدده بـ”داعش” و”القاعدة” بل يخصص له “حصة” كمّية غير قليلة في الخطاب يتعهد فيها باستئصاله (متى؟ لازلنا لا نعرف!) ولكن في الوقت نفسه يعلن أن هذا الإرهاب لا يُشكِّل “خطرا” وجوديّاً على الولايات المتحدة.

في الحقيقة يتأكّد عبر الخطاب أن واشنطن لا “تنسحب” من الشرق الأوسط بقدر ما تعيد ” ترتيب” هذا الشرق الأوسط في استراتيجياتها العالمية وتقييمها للأخطار التي تهددها.

ربما آن الأوان للتمييز- وإذا شئتم للسؤال- في مساحة “الانسحاب” الأميركي التي يكثر الحديث عنها في السنوات الأخيرة : هل هي من الشرق الأوسط أم من العالم العربي؟ ومع أنه من غير الدقيق استخدام كلمة ” انسحاب” بل ربما الأدق القول الانسحاب التدريجي من التورط العسكري المباشر، فإن التمييز بين الشرق الأوسط وبين العالم العربي في إعادة الانتشار هنا أمر ضروري قياسا بأن الشرق الأوسط يعني تركيا وإيران وإسرائيل مع العرب. والحال أن أدوار الدول الإقليمية الثلاث تتزايد اقتصاديا وسياسيا – إسرائيل علميا بصورة خاصة- بينما الوضع في العالم العربي مختلف.

وإذا صحّ هذا التفريق، وهو متزايد “الصحة”، فإن إعادة الانتشار الأميركية تعني أدواراً لإسرائيل وتركيا وإيران متزايدة في العالم العربي وليس العكس.

لولا أن الصورة الحالية لمنطقتنا تعطي الانطباع عن “صحوة” ديبلوماسية للأنظمة العربية كما ظهر في اجتماع وزراء خارجية الجامعة العربية الأخير، لكان السؤالُ ضروريا هل هي آخر “الصحوات” أم بدايتها في ظل الانهيارات المتواصلة؟

لكن لِنَعُدْ إلى “حال الاتحاد”.

يمتلئ الخطاب بلغة مدهشة ومندهشة في آنٍ معا حيال التغيرات التكنولوجية وتأثيراتها الاجتماعية. الخطاب لا يتردّد لحظة في التأكيد على استعادة الاقتصاد الأميركي قوته ولاسيما خلق الوظائف التي يحدد مداها بأكثر من أربعة عشر مليون وظيفة جديدة. لكن المشكلة الجوهرية لهذا الاقتصاد في الخطاب هي الخلل الكبير في توزيع الثروة عبر تَمركُز الجزء الأكبر منها في يد نسبة قليلة من الأميركيين مع عدم رضى فيه عن درجة اتساع الطبقة الوسطى. ولهذا هو يسأل ببساطة: كيف نجعل التكنولوجيا تعمل لنا وليس ضدنا؟

الدول المنهارة أو الفاشلة هي المشكلة الأمنية الاستراتيجية الأولى للسياسة الخارجية الأميركية. هل يريد الرئيس ببلاغته الأكيدة أن يحذرنا من أو يبشرنا بانهيارات جديدة أو يريد أن يُطلق- جدّيّاً؟- مرحلة إعادة اللملمة؟

المسألة بالنتيجة ليست مسألة بلاغة بقدر ماهي لحظة مؤاتاة وتكيُّف هذه البلاغة من رئيس غير عادي مع متغيرات الاستراتيجيات الأميركية.

هذا الرئيس ملتزم أخلاقيا تخفيف التورطات العسكرية الأميركية. هذا يجب الاعتراف به حتى لو لم يُعجِب دعاة توريطه في سوريا وغيرها. لكن الأهمية الأكبر حين تضع البراغماتية الأميركية التي تحددها المصالح الكبرى هذا الالتزام الأخلاقي في خدمة سياساتها.

لكن السؤال الأخلاقي المقابل الذي يوجّه هنا للرئيس أوباما: إذا كان عدم التورط العسكري المباشر هو التزام أخلاقي علينا فهمه واحترامه أليس ترك الدول تنهار عبر المساهمة غير المباشرة في دعم قوى تفعيل هذا الانهيار هو موقف غير أخلاقي؟

لباراك أوباما خطابات عادية ولاسيما في الموضوع الفلسطيني وكبيرة في مواضيع أخرى. هذا من الخطابات الكبيرة التي ستدخل تاريخ الخطب الأميركية وإن كنتُ أعتقد أن خطبه في المسائل الاجتماعية والشبابية والصحية والعرقية وبعض خطبه في مناسبات خارجية هي الأكبر.