IMLebanon

جريمة أنصـار وأزمـة المجتمع المُصاب والعدالة المعطّلة

 

 

ما حصل يحتاج تشريحاً أمنياً وقضائياً واجتماعياً في موازاة تشريح جثث الضحايا

 

 

الجريمة الشنيعة والصادمة التي أودت بحياة سيدة وبناتها الثلاث في بلدة أنصار الجنوبية وهزّت لبنان، وما رافقها من ملابسات وتلكؤٍ وتهاونٍ واستهتار، قضائي تحديداً زادَ من هولِ المأساة، تتجاوز كل كلام الغضبّ والاستنكار والإدانة، وتطرح أسئلة كبيرة وهواجس ضرورية. هذه الجريمة الفظيعة تحتاج تشريحاً تفصيلياً، أمنياً وقضائياً، في موازاة تشريح الجثث التي أزهقت أرواحها بأيدي نفوس شريرة عفنة. ليس حول دوافع القتلة وغاياتهم فحسب، بل حول الأسباب التي جعلت من المشتبه به الرئيسي شخصياً محمياً وخارج إطار الملاحقة والتوقيف حتى خروجه من البلد، ثم استدراجه للعودة فالتوقيف، بعدما كادت القرائن والمؤشرات والوقائع تستغيث صارخةً بأنه هو «الوحش القاتل»!! نعم، إن مفاصل أساسية من هذه الأحجيات، والتي كادت تطمس الجريمة بعد ارتكابها وإخفاء معالمها، تتوقف على فكفكة لغز التلكؤ والتراخي القضائي ورفضه تحويل الملف إلى جهاز أمني محترف للتحقيق، لتُبنى على ذلك أشياء أخرى.

 

لا يمكن القبول بواقع أن من لم يمت في لبنان بجريمةِ مجرم متوحّش، أو سرقة مصرف، أو فساد سلطة.. تكفّل يأسُهُ بدفعه لإنهاء حياته!

 

سلّم اللبنانيون بأن دولتهم متحلّلة، وسلطاتها مستَتبعة، وأمنها وقضاءها مترهّلان، لكن جريمة أنصار كشفت ما هو أفظع. هكذا، إلى الأزمات المتراكمة، السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية، وإلى اليأس المسيطر، تضاف، أو تتكشّف، أزمة اجتماعية – أخلاقية لا تقل خطورة، في بلد ينازع، منذ أكثر من سنة ونصف، انتشال العدالة في جريمة تفجير مرفأ بيروت لأكثر من مئتي ضحية وآلاف المصابين ومدينة مشلّعة.. جاءت هذه الجريمة لتعيد السؤال عن قيمة الإنسان ومعنى العدالة في لبنان؟

 

مشهدٌ يُنذر بالأسوأ

 

لم تكن الصور المنقولة من ذلك الوادي في خراج بلدة أنصار جنوب لبنان ومغارته الباردة الشاهدة على بشاعة ما حصل في تلك الليلة، أول ملامح التحلّل.. ولن تكون. فالمشهد يكاد يكون مكرراً؛ عنفٌ مكبوت، وفوضوية وثارات، وتوتر ونزقية وانفعال وعنصريات مقيتة، وتمييز وعنفٌ ضدّ النساء، وجرائم وتجاوزات وتراكمات تنذر بخطورة الأوضاع التي تعكس استقراراً هشاً، وتفلتاً أمنياً، وجموداً في النصوص القانونية، واختلالاً وفتوراً في نظام القيم الاجتماع، والأسوأ آتٍ بفعل الانسداد وغياب الأفق ومحدودية الخيارات.

 

الإنسان في لبنان، بمعزل عن اعتبارات الدين والمذهب والرتبة الحزبية والسياسية والاجتماعية والمالية، ليس قيمةً بحدّ ذاته. هكذا نمت وكبرت ظواهر الإجرام واحتقار معاني الإنسانية وعدم مراعاة حرمة الحياة وعظمتها، وعن هذه الشائبة تفرّعت إشكالات لا تنتهي وتتعلق بحقوق المواطنة، والتمرد على الدولة، وعدم الاحتكام للقانون، أو الاحتيال عليه، وعدم التردد في الانزلاق نحو الغرائز وردود الأفعال.. وإلا كيف يمكن تفسير فوضى السلاح، وثقافة اليأس، وتكاثر الجرائم، وانتشار الإدمان، والابتعاد عن الفطرة السليمة؟

 

تضجّ تقارير المؤسسات الدولية المعنيّة بالإنسان والتنمية ومدركات الفساد، منذ عدة سنوات، بالمؤشرات والوقائع والأرقام الخطيرة حول نسب الفقر والحرمان والبطالة والفساد والانتحار في لبنان.. وكلّ ذلك يعكس أن ثمة مجتمعاً بات مصاباً في الصميم. كل سلوكيات وظواهر التحلل الاجتماعي والأخلاقي والتجاري (فممارسات مافيات المصارف والتجار والمستوردين خلال الأزمة التي يمر بها لبنان لا تقلّ إجراماً)، وانتشار المخدرات وتوابعها، تكفي لتأكيد وجود أزمة اجتماعية – أخلاقية في ظاهرها، لكن عوامل عدة، سياسية واقتصادية وقضائية شاركت في استفحالها، ليس أقلها عدم الاستقرار، والفساد بوجوهه المتعددة، وغياب العدالة، والحاجة لقضاء فاعل ومستقل ونزيه.

 

مجدداً، إن الاضطراب الذي يضرب المجتمع اللبناني هو في أحد وجوهه كفرٌ بالدولة، واستسلام لمنطق أن الفراغ وغياب السياسات والرؤى هو المتحكّم في تفاصيل الحياة العامة. لأسباب عديدة جداً لا يشعر اللبناني بأنه مواطن، له حقوق وعليه واجبات، وأن فوقه قوانين وأنظمة.. كيف وهو يشهد على تجاوز أهل السلطة وتوابعهم للقوانين من أبسط الأمور إلى أعلاها… وكل ذلك أدى إلى – أو شارك في – ازدياد الظواهر السلبية والإجرامية! إن بلداً سياساته متأزمة، واقتصاده متدهور، واستقراره مهدد، وأمنه الاجتماعي هشّ، ومحيطه ملتهب، كل ذلك يضعنا أمام أزمة مكتملة العناصر والأسباب والتداعيات، تحتاج نقاشاً عميقاً قبل اقتراح سياسات للحل. وطالما الإصلاح السياسي أو التغيير الشامل مستحيل أو مستبعد راهناً، لا بدّ إذن من العمل على صون المجتمع وإعادة السكينة إليه كمقدمة ضرورية لصناعة المستقبل.

 

بين الاستهتار والتوحّش

 

جريمة أنصار، وقبلها كثير، تؤكد أن النظام في لبنان قاتل، شعبوي، مستهتر ومتقاعس، وأن العدالة والمحاسبة، استنسابية أو غائبة أو معطلة. هي نموذج فاقع ومؤلم وصادم عن حالة التوحّش والتفكّك والتمييز التي وصل إليها المجتمع، وغذّاها نظام المحاصصة، وسياسة الإفلات من العقاب، واستشراء السلاح. الرأي العام المتفاعل مع هذه الجريمة مطالبٌ بمواصلة الضغط لكشف الحقيقة وإحقاق العدالة والقصاص للأم وبناتها.

 

لا يخلو مجتمع من جرائم ومآسٍ وتجاوزات، لكن المجتمع اللبناني صاحب التجربة التاريخية الغنيّة، عاش لسنين عديدة مستقراً متفائلاً ومتماسكاً، رغم التعثرات الاقتصادية والأزمات الحياتية وضيق الأحوال، حتى في فترات الحرب، حافظ على تماسكه وتقاليده وقيمه الروحية، لكن اللافت أنه بعد مضي عقود على الانتهاء النظري للحرب وعدم تمكن السلطات المتعاقبة من إنتاج استقرار وتنمية حقيقية، تعود ظواهر مقلقة لتهدد أمنه الاجتماعي وتحتقر قيمة الإنسان فيه. لأجل ذلك لا يمكن القبول بواقع أن من لم يمت بجريمةِ مجرم، أو سرقة مصرف، أو فساد سلطة.. تكفّل يأسُهُ بدفعه لإنهاء حياته! إذ «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» رغماً عن القتلة والمجرمين.