تحدثنا في هذه الزاوية، أمس، عن الخطاب السياسي الذي تغيّر كثيراً، في لبنان، منذ تسلم العماد ميشال عون مقاليد رئاسة الجمهورية. فلم يعد المبدأ العام «الإختباء وراء الإصبع» بل بات القول في موقعه، والكلمة في معناها الحقيقي… وقادنا الى هذا الإعتقاد البيان الذي صدر عن المجلس الأعلى للدفاع والذي جاء في توصياته المعلَنة «التصدّي» لما كانت «إسرائيل» قد أعلنت عنه من نيات عدوانية تجاه لبنان وبالتحديد في موضوعي إقامتها الجدار الإسمنتي على الحدود اللبنانية – الفلسطينية، وأطماعها في ثروتنا الطبيعية من النفط والغاز في مياهنا الإقليمية / القضائية. وما قاله الرئيس سعد الحريري بأن لبنان سيواجه الإعتداء.
وكان البعض قد استغرب هذا الموقف اللبناني الصلب في وقت أنّ الجانب الإسرائيلي يتصرف داخل حدود الكيان الصهيوني وأن لا شأن للبنان في هذا الأمر، إلاّ أنه سبق للرئيس العماد ميشال عون أن أوضح هذه النقطة باعتبار أن الجدار سيُقام على «الخط الأزرق» الذي رسمته الأمم المتحدة بين لبنان وفلسطين المحتلة والمرتبط بالقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي… هذا الخط الذي تحفظ لبنان عنه واعتبره يتخطى الحدود (الحقيقية) بين البلدين في ثلاث عشرة نقطة… وهذه مدعاة الإعتراض اللبناني.
ونعود الى الخطاب السياسي الذي بات مباشراً سواء أبالنسبة الى المسألة الحدودية أم في المطلق، لنؤكّد كل ما أوردناه، أمس، من أنّ لبنان الرسمي تخلّى عن قفازات التدليس والمواربة والهروب من الحقيقة تارة بحجة الضعف وطوراً بدعوى الشطارة، وأحيانا بذريعة التذاكي.
وتحضرني، في هذه المناسبة ذكرى ذات صلة مباشرة بالموضوع تعود الى حقبة أواخر ستينات القرن العشرين الماضي، عندما كانت إسرائيل في ذروة هيجانها، في وقت كان الفدائيون الفلسطينيون قد مضوا في عمليات إختطاف الطائرات.
في تلك الحقبة إحمرّت عين رئيسة وزراء اسرائيل من لبنان الذي كان قسمٌ من جنوبه قد تحوّل الى ما عُرف في الإعلام العالمي وفي التداول العالمي بـ«فتح لاند» (أرض فتح). وهي على كل حال تسمية تصف الواقع على حقيقته… وذلك الواقع المرّ الذي أدى التمادي فيه الى «إتفاق القاهرة» سيىء الذكر والى بداية نهاية لبنان الذي كان، والذي مهّد الى لبنان الحالي الهجين… ولقد كانت كرة النار تضطرم في عهد الرئيس المرحوم شارل حلو، فتعايش مع لهيبها الى أن تمكن من توريثها الى الرئيس المرحوم سليمان فرنجية ابتداء من أيلول 1970… فبقيت تضطرم إنما بعيدة عن الأضواء، خلف غطاء من الازدهار الكبير الذي نعم به لبنان حتى نشوب الحرب فعلياً في 1975، بعد أحداث كثيرة تمهيدية للحدث الكبير، وأبرزها «حرب المخيمات» في ربيع 1973.
نعود الى أواخر الستينات، والى إنذار مدوٍّ وجّهته الى لبنان رئيسة وزراء الدولة العبرية غولدا مائير.. كنّا في بداية العمل الصحافي (ولا نزال طلاباً جامعيين)، فتوجهنا الى السراي الحكومي وانتظرنا مغادرة رئيس الحكومة آنذاك بطربوشه الأحمر العنّابي… وسألناه تعليقاً على أقوال «نظيرته» في تل أبيب، فضحك وأجاب بسؤال: شو بدكن إني ردّ على مرا» (هل تريدون مني أن أرد على امرأة)!
وهكذا كان الخطاب السياسي هروباً، وتلطياً وراء الإصبع، وتذاكياً.