زلزلت الأرض فصرخ بطرس: الموت ربح
ها هي أنطاكيا. ها نحن ننظر الى المدينة التاريخية المدمرة الواقعة على الضفة اليسرى لنهر العاصي على بعد ثلاثين كيلومتراً من شاطئ البحر الأبيض المتوسط في محافظة هاتاي التركية. ها نحن نسمع مع أنين الوجع الهائل صوت بطرس، هامة الرسل وصخرة الكنيسة، يقول: «الحياة هي المسيح والموت هو ربح». هناك، في أنطاكيا، بنيت كنيسة القديس بطرس أو مغارة القديس بطرس على سفوح جبل الحج في محافظة هاتاي. هناك، في تلك المغارة – الكنيسة، كان ملجأ أول المسيحيين. هناك أحد أقدم كنائس العالم التي سويت اليوم بالأرض في زلزال هو الأقوى. يحصل ذلك في وقتٍ يشعر فيه المسيحيون في هذا الشرق بأنهم ضعفاء وجوداً. فهل ننعي التاريخ مع سقوط آخر معالم الجغرافيا المسيحية في أنطاكيا؟
316 كيلومتراً هي المسافة الفاصلة بين بكركي، حيث مقرّ بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، وأنطاكيا، أي ما يناهز ست ساعات و13 دقيقة براً، أو أربعين دقيقة جوّاً. الى هناك، إنتقل بطريرك انطاكيا وسائر المشرق بشارة الراعي قبل عشرة أعوام، للجلوس على المقعد الانطاكي. بدا حينها كلّ شيء، في الشكل، جميلاً، عكس ما هو عليه اليوم. قصدنا انطاكيا فشعرنا وكأننا في البقاع. انطاكيا تشبه البقاع في الشكل. المنطقة نائية لا زحمة سير فيها. إشارات السير قليلة والبيوت أكثر من متواضعة. قطعنا الى جانب نهر العاصي الغزير هناك، والعاصي في بلادنا، الذي بنيت حوله المدينة. وهناك، وراء تلك السفوح، خلف خربة الجوز، تقع حلب. وعند الحدود بين انطاكيا وحلب يكثر الوجود السوري المعارض. في تلك الموقعة، في انطاكيا، انطلقت المسيحية في العالم. انطاكيا يفترض ان تكون أهم من روما عند المسيحيين. أوليس بطاركتنا الخمسة المسيحيون يسمون بطاركة انطاكيا؟ بطريرك الروم الارثوذكس وبطريرك الروم الكاثوليك وبطريرك السريان الارثوذكس وبطريرك السريان الكاثوليك وبطريرك الموارنة.
أمور كثيرة تغيرت بين قبل، وما قبل، واليوم. وفي موازاة كل المشهد اليوم ثمة ما داهم في عقول كثيرة وهو أن بعداً مسيحياً في المكان قد لا يشعر به إلا من يربط بين التاريخ واللحظة. يا الله، كم هناك من محطات ومعالم لا ننتبه إليها إلا بعد أن نفقدها. انطاكيا غريبة. إنها تُشعر الإنسان، على الرغم من حاجز اللغة، وكأنه يعرفها منذ زمن. هناك، طالما تذكر المسيحي الماروني، وغير الماروني، تلك المقولة التي راجت في لبنان: كلّن بيحكوا تركي وبكركي وحدا بتحكي الصحّ.
لا موارنة في انطاكيا. هناك من يتحدث عن وجود عائلة أو اثنتين مارونيتين صمدتا هناك. لا إحصاءات ولا أرقام دقيقة. فهل يمكن القول إن لا موارنة في منبع المسيحية؟ الثابت ان في مرسين، القريبة، موارنة يصل عددهم الى مئة وعشرين شخصاً. أما في انطاكيا فليس هناك ماروني واحد. كان هناك فندق يملكه ماروني باعه منذ زمن وهاجر. في إسكندرون نحو أربعين مارونياً.
الأرثوذكس أكثر في تركيا. وهناك أرمن وروم كاثوليك ولاتين يبلغ عددهم مجتمعين نحو 310,000 نسمة من أصل 84 مليون مواطن في تركيا.
في الصعاب والكوارث لا يهم العدد بقدر ما تهم القدرة على الصمود والبقاء. بعيداً عن كل المشهد القاسي واختلاط الدم مع التراب والأشلاء تحت الردم والعيون التائهة وأصوات أنين إيلي ومحمد وانطوان وزينب تابعنا مشهد ما قبل الزلزال في موقعة اسمها يتكرر لدى الكنيسة المسيحية الجامعة المقدسة في اليوم القصير عشرات المرات.
هناك، في مرسين القريبة من انطاكيا، كانت امرأة تدعى لينا، لينا ناصيف، قال عنها البطريرك بشاره الراعي ذات يوم: «إنها تشكل دينامو العلاقة بين المسيحيين والسلطات التركية وسرّها قد يكون إيمانها الجامح». هي كانت قادرة بحكمتها وإرادتها على العبور نحو كل القصور «لا باب يقفل أمامها واستحقت على حكمتها تسمية شارع باسمها». سألنا عنها اليوم فعرفنا أنها ماتت منذ أشهر. وجدت ميتة في شقتها نتيجة أزمة قلبية ألمّت بها. والدة لينا ناصيف كانت مارونية ووالدها أرثوذكسي ولدت في مرسين حيث كانت هناك كنيسة واحدة للموارنة حُولت الى جامع. ماتت لينا قبل أن ترى التاريخ المسيحي مستوياً على الأرض.
البشارة والقرار
كل شيء تغيّر. كل شيء يتغيّر. نسأل مطران بعلبك للموارنة حنا رحمه عن انطاكيا والمسيحيين والتاريخ والحاضر فيجيب بتواريخ ومحطات وفواصل ونبضات «انطاكيا لها في الوجدان المسيحي أهمية كبيرة، فهي كانت مركزاً لنا في هذه المنطقة منذ أيام الرسل. الوجدان المسيحي والماروني كان هناك. شكّلت انطاكيا، عبر التاريخ وقبل الفتح الإسلامي، ثقافة وحضارة ويستطرد بالقول «المدن المسيحية القديمة كانت فيدرالية، كل مدينة تقاوم وحيدة، وكل واحدة لها سور. المسيحيون لا طموح لديهم لبناء جيوش بل همهم الأهم كان دائماً، منذ البدء، نشر الثقافة واللغة والفكر، وهم عملوا في التجارة وفي صناعة الأرجوان وكانوا جسر عبور بين الشرق والغرب. هكذا كانت انطاكيا».
بعد الحرب العالمية الأولى وتداعيات خسارة السلطة العثمانية وتحويلها الى تركيا، ضمّت بموجب معاهدة أجزاء من سوريا – وتحديدا اسكندرون وانطاكيا ومرسين والسويدية – الى تركيا. وجود المسيحيين في تلك المنطقة كان عريقاً جداً. من انطاكيا إنطلقت المسيحية ودعي تلاميذ المسيح الرسل. انطاكيا أرض مقدسة وأسّس فيها بطرس وبولس اللذان اجتمعا في كنيسة مار نقولا في صيدا الكرسي الانطاكي. من انطاكيا انطلقت البشارة ومن لبنان انطلق القرار.
إنها انطاكيا. إنها انطاكيا الدامية الآن. انطاكيا، مهد البشارة المسيحية التي ليس فيها ماروني واحد منذ زمن لكن فيها أول كنيسة شُيّدت في العالم وبناها مار بطرس. كنيسة مار بطرس وبولس الأرثوذكسية في انطاكيا دمرها الزلزال. هي مبنية على صخر لكنها لم تصمد بنياناً أما إيماناً فبلى. المؤمنون المسيحيون هناك، بحسب رجل دين مسيحي، سألوا، بين كل ما سألوه بعيد الزلزال، عن كنيسة بطرس. هؤلاء طالما شعروا بأنفسهم في عالم النسيان. فهل كان هناك تقصير لدى الكنيسة تجاههم؟
مارونياً، حجة الكنيسة أن لا موارنة – أو لم يبق موارنة – في تركيا ككل. هناك مطران في حلب، وانطاكيا محسوبة كنسياً على حلب، والمسافة بين الإثنتين لا تتجاوز تسعين كيلومتراً. في كل حال، لمن لا يعرف، يوم زار البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي انطاكيا، قبل عشرة أعوام، طلب قطعة أرض من رئيس بلدية انطاكيا لبناء كنيسة مارونية عليها ووُعد يومها خيراً. سُئلت بكركي مرات: لماذا لا تشتري هي قطعة أرض وتبني عليها كنيستها؟ يومها أتى الجواب: بصلاتِنا ستحصل الكنيسة على قطعة أرض ويصبح في انطاكيا كنيسة مارونية. في كل حال، قيل أخيراً أن الكنيسة حصلت على الأرض لكنها لم تبن بعد عليها.
في التفاصيل، يوم طلب بطريرك انطاكيا وسائر المشرق قطعة أرض في انطاكيا أجابه رئيس بلديتها: هل هناك جماعة مارونية لتبنوا لها كنيسة؟ أجابه البطريرك: «كيف تكون هناك جماعة لا مركز لها؟» وتابع: أنا أوقع على أوراق تحمل إسم انطاكيا أكثر بكثير ربما مما توقع أنت».
انطاكيا اليوم، مثلها مثل مرسين واسكندرون والسويدية و…و… تنزف. والمسيحيون والمسلمين، كما كل من كانوا هناك لن يعودوا بعد الزلزال كما قبله. والجميع الجميع يخشون اليوم من أن يتكرر الزلزال هنا أو هناك أو هنالك، فماذا يقول المطران حنا رحمة؟ هو كان لحظة زلزلت أرض انطاكيا وسواها في بكركي ويقول: «الخوف الشديد يتناقض مع الإيمان ويسوع ذكر أكثر من ثلاثين مرة: لا تخافوا وكونوا مستعدين، ومن يوجد الله بحياته قد يخشى قليلا لكنه لا يصبح أسير الخوف الشديد. ويجب على الناس، كل الناس، ألا تصاب بالهلع لأن لا أحد يعلم متى تأتي الساعة».
يُحدثنا المطران رحمه كثيراً عن انطاكيا العظيمة وعن لواء الاسكندرون وعن الرسل والكنيسة الجامعة والبطريركيات الخمس والفتح الإسلامي والقسطنطينية ومار مارون ونهر العاصي والجغرافيا والتاريخ… نسمع كثيراً ونكتشف أن هناك تاريخاً ننساه في يومياتنا ولا نتذكره إلا بعد فوات الأوان. فهل زالت انطاكيا أم أنها ستعود وتنبثق من الموت مجدداً؟ مار بطرس هو الصخرة ومن يبني على صخرة قد يهتز ويقع، لكنه لا يموت.