لم يتحقق بعد اي انجاز عملي في موضوع مكافحة الفساد واستعادة الاموال المنهوبة، في ظلّ الاعتقاد السائد، انّ استعادة نحو 5 مليارات من الدولارات من الاموال التي خرجت او أُخرجت من لبنان، قبيل الحراك الشعبي في 17 تشرين الاول الماضي وتحت جنحه وبعده وصولاً الى كورونا، من شأنه ان يعيد شيئاً من التوازن الى الوضع المالي، ويؤسس لمعالجة الأزمة من دون حاجة الى صندوق النقد الدولي.
وعود الحكومة بمكافحة الفساد شيء والواقع شيء آخر. يقول عاملون على مكافحة الفساد، مؤكّدين انّه تبيّن لهم، بعدما ظنّوا للوهلة الاولى انّ الامر من السهولة بمكان، انّ هذا الفساد عمره من عمر الاستقلال، وإن اختلفت احجامه من عهد الى آخر، الى ان بلغ الذروة هذه الايام، حيث تعيش البلاد انهياراً مالياً واقتصادياً غير مسبوق.
وهذا الفساد له منظوماته السياسية، التي تكاد قوتها تفوق قوة الدولة كونها تعشش، بأزلامها والمحاسيب، في كل الوزارات والمؤسسات الهامة والخاصة، ولا سيما منها الدسمة، اي تلك التي تتيح طبيعة اختصاصها وعملها السطو على المال العام بالطرق المباشرة منها والملتوية، فضلاً عن فساد الموظفين الكبار وما دون، وصولاً الى ادنى وظيفة.
وهذه المنظومات الفاسدة انشأت لنفسها شبكات حماية تقوم «بالتكافل والتضامن» على تعطيل اي محاولة تستهدفها، بدليل، انّ ما من محاولة جرت لمكافحة الفساد وكشف ملفات سرقة وسطو على المال العام بمختلف الطرق إلّا وكان مصيرها التعطيل والاحباط، ومنها المحاولات التي تقول الحكومة انّها قامت بها، او تلك التي يقوم بها بعض الكتل النيابية والاحزاب، حيث انّ كل هذه المحاولات واجهت ولا تزال تواجه عراقيل، بعضها كان مفاجئاً، او لم يكن في الحسبان.
والملفت، انّ الفاسدين على اختلاف مشاربهم السياسية والطائفية والمذهبية يجتمعون دوماً على احباط اي خطة او عمل، يدركون مسبقاً انّه سيكشفهم امام الرأي العام، وهذا ما حصل للمحاولات الجدّية التي بذلها البعض لمكافحة الفساد في قطاعي الكهرباء والإتصالات، وكذلك في القطاعين المالي والمصرفي وغيرهما من القطاعات «الدسمة». علماً انّه يندر وجود قطاع او ادارة في الدولة يمكن تنزيهها عن الفساد. ومقولة انّ مال الدولة هو دوماً محل طمع، يعمل كثيرون بها من دون وازع من ضمير او اخلاق، فيما شرائع الديانات السماوية كلها تحرّم السطو على المال العام، لأنّه مثل «المال الوقفي» يعود لمصلحة الجماعة ولا يجوز لفرد او جماعة التصرّف به بغير وجه حق.
ويعتقد العاملون على مكافحة الفساد، انّ المنظومة الفاسدة لا يمكن ان تستسلم او تسلّم نفسها او ان تعترف بارتكاباتها بسهولة، اذا لم تتوافر منظومة قضائية مستقلة تؤازرها منظومة سياسية نزيهة، بحيث تعمل هاتان المنظومتان بقوة وبشفافية على استعادة المال المنهوب، وكشف كل الفاسدين الذين يستندون بعضهم على بعض كأحجار الدومينو، بحيث اذا انهار احدها تنهار جميعها تدريجاً.
وامام صعوبة الوصول الى مكافحة كاملة وناجزة للفساد، فإنّ افضل الخيارات، في رأي قطب نيابي بارز، هو إعتماد خيار «على القطعة»، بحيث يتمّ التعامل مع ملفات الفساد في مختلف قطاعات الدولة ملفاً بعد آخر، مع العلم انّ أصعب ما واجهه العاملون في هذا المجال هو الملفات ذات المفعول الرجعي، اذ تبيّن لهم، انّ هناك ملفات لا يمكن معالجتها من دون العودة الى الماضي، ما جعل هؤلاء يتهيبون الموقف ويخشون من ان يؤدي الدخول في هذه الملفات الى نكء جراح الماضي، فإضطروا الى صرف النظر عنها والذهاب الى التعاطي مع الملفات التي يتبيّن ان ليس لها امتدادات الى الماضي.
فالعودة الى الماضي في مكافحة الفساد، لا تبقي فوق الغربال ممن تعاقبوا على السلطة، منذ التوصل الى «إتفاق الطائف» إلّا قلّة منهم، مع العلم انّه بالعين المجردة يمكن التعرف الى كل هؤلاء الفاسدين والمرتكبين على اختلاف مواقعهم لمجرد المقارنة بين ما كانوا عليه عند دخولهم الى السلطة والى وظائفهم، وبين ما هم عليه الآن، سواء كانوا لا يزالون في مواقعهم او خرجوا منها الى «التقاعد».
على انّ مرجعاً سياسياً لديه نظرته الخاصة في موضوع الفساد وسبل مكافحته، فهو للحظة ما، يرى انّ مكافحة الفساد في لبنان وبناء دولة نظيفة شفافة، مالها يبقى «في الحفظ والصون» ويُصرف لما فيه خير شعبها في كل المجالات، أمر بعيد المنال، لأنّ النظام اللبناني طائفي، وطالما انّه كذلك سيبقى يستولد الفساد يومياً ومن جيل الى جيل، الى حين الوصول الى الغاء الطائفية. وطالما انّ النظام يقوم على المحاصصة الطائفية وغير الطائفية في كل قطاعاته، فانّ ذلك يبقي الفساد قائماً، لأنّ الماحصصة اصلاً تستبطن الفساد او عقلية الاستحواز والتسابق على كسب المغانم.
ويُستنتج من كلام هذا المرجع، انّ الخلاص من الفساد يتطلب الغاء الطائفية السياسية، ما يفرض الشروع عملياً في تنفيذ المادة 95 من الدستور التي تنصّ على الآلية المطلوب اعتمادها لتحقيق هذا الالغاء، وكذلك تنصّ على المناصفة الموقتة بين المسيحيين والمسلمين في تقاسم المراكز والوظائف العامة من الفئة الاولى، الى حين الغاء الطائفية. وقد جرت محاولات عدة طوال الثلاثين عاماً التي انقضت على اقرار اتفاق الطائف والدستور الذي انبثق منه، ولكنها فشلت لعدم توافر الإرادات الجدّية، لدى طبقة سياسية كانت ولا تزال تستمد وجودها وتؤمّن استمرارها في السلطة باللعب على اوتار الطائفية والمذهبية.
الّا انّ ما وصلت اليه البلاد من انهيار، لا يمكن ان ينتظر الغاء الطائفية السياسية الذي ما زال «وعداً يحمله اللبنانيون في احلامهم وامانيهم»، مثلما قال نواب عندما خرجوا من مؤتمر الطائف عام 1989 الذي انتج «وثيقة الوفاق الوطني» المعروفة بـ «إتفاق الطائف»، والمطلوب، في رأي القطب النيابي ايّاه، خطوات عملية وسريعة بدءاً بالاتفاق على ارقام الخسائر المالية ومقارنتها مع الناتج القومي، وعندها يُبنى على الشيء مقتضاه بالتعاون مع صندوق النقد الدولي او غيره.