المسار مستمر. ويبدو أن السلطة السياسية المتهمة بالفساد لن تتراجع عن تأكيدها أنها تريد مكافحة هذا الفساد، بالتوازي مع استمرارها في تجاوز القوانين. المعادلة لا تطمئن. لكن المجلس النيابي يتابع البحث في إقرار قوانين في السياق نفسه. آخر القوانين التي يفترض أن لا يتأخر إقرارها هو قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. تلك محاولة جريئة لوضع الأمور في نصابها ووضع القطاع العام في لبنان أمام مجهر كاشفي الفساد، لكنها ستبقى ناقصة طالما ستعتمد في إنشائها، لا شك، أدوات النظام الطائفي الفاسد نفسه.
مسار «مكافحة الفساد» مستمر تشريعياً، لكنه لم يتحول إلى مسار عملي بعد. ليس مضموناً ذلك في الأساس. فمن يشرّع قوانين مكافحة الفساد هم أنفسهم المتهمون بالفساد، وهم أنفسهم الذين يتجاوزون القوانين. لكنهم مع ذلك يبدون مصرين على المضي قدماً بالالتزام بشعارات مكافحة الفساد. هذا الشعار «سائد» في البلاد. ويتعامل رافعوه معه كما لو أنه قضية رشاوى واستغلال نفوذ وتحصيل منافع بغير وجه حق، متجاهلين أن بنية النظام اللبناني، الطائفية، فاسدة، ولا تُنتج سوى الفساد.
حتى الآن، أقر المجلس النيابي ثلاثة قوانين، هي: حق الوصول إلى المعلومات (19/1/2017)، حماية كاشفي الفساد (24 أيلول 2018) ومكافحة الفساد في عقود النفط والغاز (الجلسة نفسها). اللائحة لا تزال طويلة، لكن، المسار التطبيقي مشكوك في أمره، أسوة بـ39 قانوناً أقر ولم ينفّذ، وأسوة بالتطبيق الاستنسابي الذي أفرغ قانون حق الوصول إلى المعلومات من مضمونه.
مع ذلك، فإن الورشة التشريعية مستمرة، ولكي تكتمل «سيبة» قوانين مكافحة الفساد، يُفترض انضمام «قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» إليها. فإقرار هذا القانون يُشكّل ضرورة لتنفيذ عدد من بنود القوانين التي سبق أن أقرت.
أنجزت مناقشة اقتراح القانون، الذي سبق أن قدمه النائبان السابقان روبير غانم وغسان مخيبر، في لجنة الإدارة والعدل، وتعكف لجنة المال والموازنة حالياً على دراسته. وقد أقرت، حتى الجلسة السابقة، 18 بنداً من أصل 28، فيما يفترض أن تشهد الجلسة المقبلة تصديق الاقتراح تمهيداً لرفعه إلى الهيئة العامة.
لا حصانات أمام الهيئة ولا سرية مصرفية وأعضاؤها «منزّهون» عن الأحزاب
الركيزة الأساس في المشروع مرتبطة بإنشاء الهيئة الوطنية للمكافحة الفساد. هي هيئة مؤلفة من ستة أشخاص ولايتهم تمتد لست سنوات. عدد يعطي إشارة سلبية سريعة، فالهيئة المكلّفة بمكافحة الفساد ستعمل على قاعدة «ستة وستة مكرر»، إحدى أبرز أسباب الفساد. لكن لرئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان وجهة نظر أخرى. هو يؤكد بداية أن القانون لا يلحظ أي إشارة لطائفية أعضاء الهيئة. ثم يتخطى هذه النقطة، مشيراً إلى أنه حتى لو سلّمنا جدلاً بأن التطبيق سيؤدي إلى توزيع الأعضاء طائفياً، فإن «طريقة اختيار هؤلاء تنزع أي شك بمناقبيتهم وأهليتهم ومكانتهم، والأهم أنها تنزع من السلطة التنفيذية بعضاً من تحكمها بالتعيينات، لتعطيه إلى القطاعات النقابية التي تمثّل المجتمع المدني والقضائي». بالنسبة للمشرّع، فإن شروط الترشيح تساهم في إبعاد شبح السياسة عن الهيئة. إذ يُفترض بأعضائها أن لا يكونوا قد تولوا أي منصب سياسي وأن لا يكونوا أعضاء في أي جمعية تمارس العمل السياسي وأن لا يكونوا أعضاء حاليين أو سابقين في أحد الأحزاب. في هذا الشرط، تأكيد واضح على أن الأحزاب الممثلة في السلطة هي سبب الفساد، لكن الأهم أنه يتماشى مع «موجة» شيطنة العمل الحزبي لمصلحة المجتمع المدني، ومحاولة للتذاكي والقول إن الأزمة هي في انتماءات الأشخاص لا في أدائهم. أضف إلى أن ربط الهيئة بتعيين مباشر من الحكومة يقود عملياً إلى تكرار تجارب لا تزال ماثلة وتتعلق بخضوع الهيئات الرقابية والقضائية للإرادة السياسية. كثيرة هي الأمثلة، لكن أبرزها أن المجلس الدستوري المعني بالتحقق من دستورية القوانين، والمؤلف بمعظمه من شخصيات «غير حزبية» (غالبيتهم قضاة)، سبق أن برر التمديد للمجلس النيابي مرتين على التوالي، على رغم تأكيده أنه مخالف للدستور.
بحسب المادة السادسة، تتشكل الهيئة على النحو التالي:
– قاضيان متقاعدان بمنصب الشرف يتم انتخابهما وفق الأصول التي ترعى انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى، على أن تتألف الهيئة الناخبة من مجمل القضاة الأصيلين في القضاء العدلي والإدارة والمالي.
– محام أو حقوقي من بين أربعة أسماء يرشح اثنين منهم مجلس نقابة المحامين في بيروت واثنين مجلس نقابة المحامين في طرابلس.
– خبير محاسبة، من بين ثلاثة أسماء يرشحها مجلس نقابة خبراء المحاسبة المجازين في لبنان.
– خبير في الأمور المصرفية أو الاقتصادية من بين ثلاثة أسماء ترشحهم هيئة الرقابة على المصارف.
– خبير في شؤون الإدارة العامة أو المالية العامة أو مكافحة الفساد من ثلاثة أسماء يرشحهم وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية.
وهذا يعني عملياً أن السلطة السياسية ستكون معنية باختيار 4 أعضاء من أصل ستة، لكن الاختيار يبقى محصوراً بالأسماء التي تُرفع إلى المجلس. وهو اختيار يفتح الباب أمام السلطة السياسية لمراعاة التوزيع الطائفي أو السياسي للأعضاء، من إغفال معيار الولاء ربما.
مع ذلك، فإن أحد الإنجازات التي يمكن أن تتحقق، بمجرد إقرار القانون، هو إلغاء كل الحصانات وكذلك تفعيل قانون الإثراء غير المشروع. فللهيئة الحق في ملاحقة أي نائب أو وزير عفواً، كما أنه يسمح لها بطلب رفع السرية المصرفية عن حسابات معينة، ولها أن تطلب مساعدة الضابطة العدلية أو معاونيها لجهة الحصول على المعلومات المتوافرة لديها. كما لها أن تطلب من الجهات المعنية منع سفر أو ضبط أموال مشتبه بهم أو تجميد حساباتهم.
بحسب المادة 18 من الاقتراح، تعمل الهيئة على مكافحة الفساد والوقاية منه وكشفه وتلقي الكشوفات المتعلقة بالفساد واستقصاء جرائم الفساد ودرسها وإحالتها إلى سائر الهيئات الرقابية والتأديبية والقضائية، رصد وضع الفساد وكلفته وأسبابه وجهود مكافحته والوقاية منه، وكذلك إبداء الرأي في التشريعات والمراسيم والقرارات والمتعلقة بمكافحة الفساد. ويبدو لافتاً أنه، خلافاً لما يجري حالياً، حيث تتكدس تصاريح الذمة المالية في المجلس الدستوري، فإن للهيئة مهمة تلقي التصاريح والتدقيق بها وفق أحكام قانون الإثراء غير المشروع. كما يفترض بها حماية كاشفي الفساد.
في الخلاصة، فإن الهيئة المقترحة، التي يتقاضى أعضاؤها رواتب توازي رواتب أعضاء المجلس الدستوري وتملك موازنة خاصة بها (يؤكد كنعان أنها لن تكون كبيرة، خصوصاً أن جهازها الإداري سيكون محدوداً)، ستكون بمثابة نيابة عامة خاصة بالفساد، وستكون في تكوينها ذات صلاحيات وسلطات واسعة تفوق أي سلطة أو هيئة قضائية موجودة حالياً. كل ذلك لا يلغي القلق من تحوّل الهيئة إلى وجاهة لا تلغي الفساد ولا تحدّ منه.