كتب عباس محمود العقاد عن الفساد فقال: «الأمة التي تُحسِن أنْ تجهر بالحق، وتجترئ على الباطل تمتنعُ فيها أسباب الفساد».
تعدّدت تعريفات الفساد وأسبابه في «جمهورية الملفوف»، ولكن أيّاً من التعريفات لمتلحظ ماهية هذه الآفة الخطيرة بكافة جوانبها، ما يستدعي تقديم المصطلح بشموليته «الفساد في القطاع العام هو الإساءة في استعمال السلطة أو الوظيفة العامة بصورة لا أخلاقية أو غير قانونية لتحقيق منافع سياسية واجتماعية، ومكاسب اقتصادية ومالية لمصلحة الفاسد الخاصة، أو لمصلحة فرد أو جماعة معيّنة، وذلك باستغلال موقع الشخص في السلطة الرسمية المخوّلة له والانحراف بها عن المصالح العامة».
لطالما عبّرت القوى السياسية في «جمهورية الملفوف» عن نيّتها مكافحة الفساد والهدر على مدى عقود، ولكن أيّ منها لم يتمكّن من تقديم المصالح الوطنية على المصلحة الشخصية، فكانت النتيجة فشل الدولة الذريع في مواجهة فاسدٍ واحدٍ أو استرجاع ليرة واحدة من الأموال المنهوبة. ولم يقتصر الفشل على الماديات المهدورة والمنهوبة، بل أدّى الفساد المستشري إلى تفكّك الدولة بسبب فقدان الأخلاق والقيم الأساسية، وانعدام الإلتزام بالقوانين، وطمس حسّ المواطنة لدى المرتشين مقابل الغنائم والإكراميات والهدايا التي يتقاضونها لتمرير الأمور أو التستّر على المخالفات أو إهدار الحقوق.
عاودت القوى السياسية اليوم رفع شعار «مكافحة الفساد» لغاية في نفس يعقوب، فهناك مَنْ يريد الإيحاء بشروعه بالإصلاحات بهدف الحصول على ما تيسّر من أموال «سيدر»، وهناك مَنْ يريد التغلغل في الإدارة العامة والإمساك بمفاصل هامة فيها. لكن، من غير الشائع في «جمهورية الملفوف» أن تخلوَ من الفاسدين، فالكل تقاسم «قالب جبنة البلد»، والجميع شارك في «أكل البيضة وقشرتها»، وأغلب القوى التي تتشدّق بمكافحة الفساد تتعامل مع البلد على أنّه شركة تجارية يسعى كل طرف لأنْ ينتزع منها ما يستطيع.
وثمّة شواهد وقرائن على «إبداع» القوى السياسية في أساليب الهدر والفساد، وأوّلها التوافق والتراضي على إنشاء وزارات الدولة بهدف التنفعة السياسية، ودون تحديد ماهية دورها وهيكليتها وصلاحياتها. وهناك طرف سياسي قام بحشد أعداد كبيرة من الموظفين في الوزارات والإدارات العامة ومؤسّسات الدولة، وهم موظفون لا يقومون بأي أعمال، ومنهم مَنْ لا يداوم أصلاً، ويقبضون رواتبهم عند آخر كل شهر. كذلك حال طرف سياسي آخر عمد إلى توظيف عدد من المحسوبين عليه في مؤسّسات وطنية كبيرة بالتواطؤ، ومن دون الإعلان عن الحاجة إلى التوظيف، ودون المرور عبر المؤسّسات المعنية بالتوظيف، في حين يرفضون تعيين موظفين نجحوا في امتحانات مجلس الخدمة المدنية تحت ذريعة عدم وجود توازن طائفي ومذهبي في الناجحين، مع أنّ الدستور اللبناني لم ينصّ على ذلك. وهناك مَنْ يشرّع للتجّار المحسوبين عليه تهريب البضائع دون أن تتمكن الدولة من جباية الضريبة والرسوم عليها، وغيرها من الأمور التي باتت بعهدة الرأي العام.
إذاً كيف سيكافح الفساد مَنْ لم يعُد بمنأى عنه، وهو محاط بالفاسدين من حلفاء وخصوم؟ مَنْ سيكافح مَنْ، وكيف سيتمكّن مَنْ يدّعي مكافحة الفساد من التقدّم قيد أنملة في خططه طالما جميع الفاسدين يحتمون بغطاء مرجعياتهم الدينيّة والسياسية؟، وطالما هناك محاولات لتسييس مكافحة الفساد وحصر ملفات الهدر والفساد بالآخرين؟ باختصار كيف سيكافح الفاسدون الفساد؟!
مكافحة الفساد يجب أنْ تبدأ من أعلى هرم السلطة إلى الأسفل، وإذا كان الأطراف في «جمهورية الملفوف» مجمعين حقاً على مكافحة الفساد والهدر في مؤسّسات وإدارات الدولة، عليهام منح السلطات القضائية في جميع أقسامها ودوائرها استقلالها التام قبل أن تترك الملفات في عهدتها، لكي تتمكّن من الذهاب في ملفات الفساد حتى النهاية، حتى لو طالت الشخصيات النافذة في البلد؛ وهذا لا يمكن أنْ يحصل في بلدٍ شبّت فيه القوى السياسية على رعاية الفساد ولا يمكنها أنْ تشيخ على مكافحته.
أي كلام غير ذلك يجعل منمكافحة الفساد نكتة سمجة.. وممجوجة.. وبايخة!