لا بدّ من الاعتراف بأن اللغط الدائر حول مرسوم التجنيس أساء إلى صورة العهد والسلطة، وشوّه كل شعارات النزاهة والشفافية، التي خُيّل للبنانيين أنها ستكون عماد الدولة القوية، التي طال انتظارهم لها.
لا جدال في الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية، والتي تخوّله إصدار مثل هذه المراسيم، ومنح الجنسية اللبنانية لمستحقيها، وفي إطار المواصفات والمعايير التي حددتها النصوص الدستورية.
ولكن الصدمة الوطنية التي يعيشها اللبنانيون هذه الأيام، تعود أساساً إلى الظروف الغامضة التي أحاطت بهذا المرسوم المفاجئ، وأجواء التكتم المريب حول مضمونه، وأسماء المستفيدين منه، فضلاً عن الصمت «الفصيح» الذي التزمت به السلطات المعنية، وخاصة وزارة الداخلية، المرجع الصالح لإعداد وتنفيذ مثل هذه المراسيم.
جاءت عملية التجاهل والصمت، من جانب السلطة، لتزيد من مشاعر الشك والريبة حول الحيثيات الكامنة خلف هذه الخطوة، غير المنتظرة في هذا التوقيت بالذات، حيث جرت العادة أن تتخذ قرارات التجنيس في نهاية العهود الرئاسية، وليس في بداياتها، كما حصل مع المرسوم الحالي.
وفيما حاولت الجهات الرسمية وضع رأسها في الرمال وإدارة ظهرها لردود الفعل الغاضبة، كانت الضجة السياسية والشعبية تأخذ مداها في وسائل الإعلام، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أشبه بالمرآة التي تعكس مواقف الرأي العام، ووجد فيها الناس أقرب الوسائل للتعبير عن مشاعرهم وإراداتهم.
لا ندري كيف خُيّل لبعض المسؤولين، أن مثل الأمر الجلل يمكن أن يمر ببساطة، ومن دون تداعيات وتساؤلات من قبل السياسيين والمواطنين المتربصين، خاصة وأن السرية المفرطة، وطبعاً غير المبررة، قد أطلقت العنان للحملات والتسريبات التي لم توفر أحداً، وإن كان بعضها لم يخلُ من المبالغات!
عدد المستفيدين تراوح بين ثلاثمائة وأربعمائة شخص، البعض زعم أن هذا عدد العائلات، والأفراد عددهم أكثر بكثير(!)، ونشطت المخيلات في تداول الأرقام المالية التي دفعها المتجنسون، وأسماء النافذين المستفيدين منها، فضلاً عن الجوانب السياسية البحتة، والتي ركز أصحابها على بعض الشخصيات السورية المقرّبة من الرئيس السوري!
كل هذا اللغط كان البلد بغنى عنه، لو تم التعامل مع هذا الملف الحساس، بشفافية وصراحة ووضوح من قبل المرجعيات المعنية.
من حق اللبنانيين أن يعرفوا المعايير والقواعد التي تم اعتمادها في منح الجنسية لمن وردت أسماؤهم في هذا المرسوم! وهل صحيح أن ثمة مبالغ دفعت من المتجنسين، ومعظمهم من الأثرياء وكبار رجال الأعمال! وأين ذهبت الأموال الطائلة، ومَن استفاد منها، وما حصة الخزينة اللبنانية المفلسة منها!
ثمة أنظمة وقوانين في كثير من دول العالم، والأقرب إلينا تركيا وقبرص واليونان، تسمح بمنح إقامات طويلة الأمد، خمس أو عشر سنوات، وصولاً لمنح الجنسية بعدها، لكل من يستثمر في البلد من رجال الأعمال الأجانب، بمبالغ مليونية يتفاوت مقدارها من بلد إلى آخر.
وباستثناء عدد من الدول الأفريقية، وما يسمى «جمهوريات الموز» في أميركا الجنوبية، ليس بين الدول التي تحترم شعوبها، وتحافظ على هيبة السلطة، وتحرص على الشفافية والحوكمة في إدارتها شؤون البلاد والعباد، من يُقدم على منح الجنسية للمئات من الأجانب، بشكل شبه سرّي، وبتكتم يثير الريبة والكثير من الشكوك، ويزعزع ثقة الداخل والخارج بقدرة الدولة ونزاهة السلطة فيها.
أما الإشكالية الكبرى التي تتفاقم بين السلطة ومواطنيها فتكمن في هذه المفارقة الصادمة والمحزنة، في آن، حيث يتم منح الأجانب الجنسية اللبنانية بشحطة قلم، فيما الآلاف من الأمهات اللبنانيات يتظاهرن في الشارع للحصول على حقهن في منح جنسيتهن لأولادهن، وإنقاذ عشرات الآلاف من الشباب اللبناني من التشرّد والضياع، بسبب عدم وجود هوية أو جواز سفر بين أيديهم!
ماذا ينفع الحديث عن مكافحة الفساد، وقيام «دولة قوية»، إذا لم تكن عادلة، وتحقق إرادة شعبها، وتعيش أوجاع الناس، وتعمل على معالجة مشاكلهم..؟!!
مكافحة الفساد.. تبدأ بالكشف عن ملابسات مرسوم التجنيس، واعتماد الشفافية الدستورية في وضع الأمور في نصابها الصحيح، ووضع حد لكل هذا اللغط والإشاعات التي تنهش بسمعة لبنان، وتضاعف حالة الاهتراء الراهنة!