بالنظر إلى «استراتيجية مُكافحة الفساد» التي أقرّها مجلِس الوزراء في جلسته ما قبلَ الأخيرة، وبالمقارنة مع السرديات والمخطّطات التنفيذية الناجِزة منذُ سنوات، يتبيّن أن لا تعديل جوهرياً طرأ عليها. يعني أن لا شيء كان يمنع الحكومات السابقة من تبنّيها إلا عدم وجود نية للإصلاح، ولا شيء أجبر حكومة الرئيس حسان دياب التصويت عليها، إلا لكونها شرطاً مقروناً بأيّ مُساعدة وقروض خارجية. لكن هل هذه الاستراتيجية بما تتضمّنه من أهداف هي سِلاح فعّال لاجتثاث الفساد؟
يُبالِغ من يظنّ بأن البلاد ستُصبِح أقل فساداً بمخطّط تنفيذي وعناوين إصلاحية. ويُخطِئ من يحدّ الفساد في البلد بموظّف إداري مُرتشٍ، وعسكري مُخالف، ورئيس حزب ناهِب أو رئيس تيار متعدٍّ. المُشكلة الأساسية هي في تشابُك الأحزاب والطوائِف والمذاهِب مع الإدارات الرسمية من دون استثناء، حتى تلكَ المُؤتمنة على تطبيق القوانين، إضافة إلى النفوذ الخارجي القادر على وضع فيتوات تحمي فاسدين.
لذا، فإن معوّقات القضاء على الفساد لا تنحصِر في مكان أو موقع، ولا علاقة لها بإصدار تشريعات أو عدم تطبيق قوانين، بل بنظام ونموذج سمحَ للفساد بأن يكون له رُعاة داخليون وخارجيون غير معنيّين بأيّ إجراءات وهم فوق أي قوانين.
رعاة الداخِل يستمدّون قوتهم من نظام رأسمالي فاسِد، سمَح للطبقة المهيمنة بتحقيق إثراء غير مشروع عبرَ عقود غير قانونية وصفقات مشبوهة في مشاريع الكهرباء والمياه أو الزراعة والصناعة، أو حتى جمع النفايات مِن الشوارِع. كما سمَح هذا النظام لأصحاب الأموال ممّن تربطهم بالقوى السياسية مصالِح عضوية بأن يتحوّلوا إلى صانِعي قرار، فكانوا من أجل هذه المصالح يتدخّلون في عمل المؤسسات ويمنعون إقرار مراسيم وتشريعات، أو يدفعون إلى التوافق عليها. لذا، تُعتبر مُحاربة الفساد مُستحيلة، كون السلطة السياسية المستمرة بحكم «التوازن الطائفي» هي المسؤولة، وأي تطبيق حرفي لمثل هذه الاستراتيجية بما تنصّ عليه يُجرّمها ويُطيحها. فهل تحفُر السلطة قبرها بيدها؟ وإلا ماذا يعني أن برامِج الإصلاح واقتراحات القوانين التي أقرّ بعضها، لم تُحقّق حتى الآن جزءاً من الهدف المرجو؟ فالحكومة مثلاً، لم تلتزِم بقانون حق الوصول إلى المعلومات، ولم تُنشِئ الهيئة المعنية بالإشراف على تطبيق القانون رغم مرور 4 سنوات على إقراره في مجلس النواب. ناهيك عن أن الوصول إلى المعلومات حق لم يستفد منه المواطنون، إذ لا يزال الكثير من البيانات الخاصة بعمل الدولة غير مُتاحٍ.
وماذا تستطيع أن تحقّقه هذه الاستراتيجية في ظّل وجود قوى عظمى خارجية تمنع المسّ برموز الفساد في البلاد ومُحاسبتهم؟ فالمطالبة بالتحقيق مع حاكِم مصرف لبنان رياض سلامة، على سبيل المثال، مُحرّم أميركياً. وبالرغم من تورّطه، وبالدليل القاطِع، بانهيار مالية الدولة والسوق النقدية، لا يتجرأ أحد على مساءلته بسبب تدخّل الولايات المتحدة الأميركية لحمايته، فيسقط أكبر مشروع لمكافحة الفساد أمام خطّ أحمر تضعه واشنطن، كما أي مرجعية دينية أو سياسية داخلية.
حكومات ترِث اللجان…
بعدَ عامين على انضمام لبنان إلى الاتفاقية الدولية لمُكافحة الفساد (2009)، قررّت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل لجنة وزارية يرأسها رئيس الحكومة، وينوب عنه وزير التنمية الإدارية (محمد فنيش) ويشارِك فيها وزراء المالية والعدل والداخلية. وألّف مجلس الوزراء لجنة فنية تضمّ ممثلين عن مختلف القطاعات والوزارات المعنية لمتابعة تنفيذ ما نصّت عليه الاتفاقية، ومنها استراتيجية مُكافحة الفساد.
وفي حكومة الرئيس تمام سلام (2014) حينَ كانَ نبيل دو فريج وزيراً للتنمية، انبثقَت عن اللجنتين لجنة مُصغرة، يترأسها القاضي سعيد ميرزا، وأعضاؤها القضاة: ندى الأسمر (النيابة العامة التمييزية)، بسام وهبة (ديوان المحاسبة)، كارل عيراني (ممثلاً وزارة الداخلية)، الدكتور وليد الشعار (من وزارة المالية) والمحامي شربل سركيس (مستشار وزير التنمية الإدارية). هذه اللجنة بدأت بوضع «سردية الاستراتيجية»، والبحث عن أسباب الفساد في الدولة اللبنانية التي صنفتها ما بين سياسية وإدارية واجتماعية، مُحددةً أهداف الاستراتيجية ومقوّمات النجاح.
هذا المسار استكملته الوزيرة عناية عز الدين في حكومة الرئيس سعد الحريري (2016). فبعدما تضمّن بيان الحكومة الوزاري كلاماً عن مكافحة الفساد، وضعت عز الدين بصفتها وزيرة التنمية الإدارية الجزء الثاني أو العملاني التأسيسي من الاستراتيجية وهو المخطط التنفيذي لها، من دون أن تغيّر في «السردية» التي كانت تتناول القوى السياسية. انطلقت عز الدين في عملها من حيث انتهت اللجنة، وأنجزت الاستراتيجية التي تحدّدت أهدافها بإرساء الشفافية، وتفعيل المساءلة، والحدّ من الاستنسابية بعمل الإدارة ومنع الإفلات من العقاب. وجرى وضع آليات التنفيذ من خلال المؤسسات الدستورية والحكومة المفتوحة وتكنولوجيا المعلومات التي تعتمِد على الحكومة الرقمية (مشروع التحول الرقمي الذي عملت عليه الوزارة في الموازاة)، وخرجت بتوصية مفادها أن هذا العمل سيبقى غير مكتمل إذا لم يوضَع المخطط التنفيذي، الذي أنجزته الوزارة في ما بعد بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان، والاستعانة بخبراء تابعين له في الخارج. وركّز هذا المخطط على 7 «مُحصّلات»، لكل منها «مخارج» وفترة زمنية ومسؤولون عنها. وهذه «المحصّلات» هي: استكمال وتفعيل تشريعات مكافحة الفساد، حماية النزاهة في إدارة الموارد البشرية في القطاع العام، تعزيز نزاهة المناقصات والمزايدات العمومية، دعم دور النظام القضائي في مكافحة الفساد، دعم دور الأجهزة الرقابية، مشاركة المجتمع في ترسيخ ثقافة النزاهة، وتدابير وقائية على المستوى القطاعي.
أيّ مشروع لمكافحة الفساد يسقط بخط أحمر أميركي وبخطوط حمر طائفية وسياسية
أما الاستراتيجية التي أقرّتها حكومة دياب فهي تقريباً نفسها التي أنجزتها عز الدين، مع تغيير في «السردية» و«محصلتين» من السبع المنصوص عليها. وهذه «السردية» جرى تغييرها أول مرة في حكومة الحريري حين اعترض الأخير وعدد من الوزراء على اللغة المستخدمة ضد السياسيين، فطُلب إلى الوزيرة السابقة مي شدياق إعادة صياغتها والتخفيف من حدة اللغة. ثم جرى تعديل هذه «السردية» في حكومة دياب التي اعتمدت لغة تُحاكي الشارِع بعد «١٧ تشرين». أما في ما يتعلّق بـ«المحصلات»، فقد عدّل الوزير دميانوس قطار تلكَ المتعلقة بالإدارة العامة تسميةً ومقاربةً، فصارت بعنوان «مستويات نزاهة أعلى في الوظيفة العامة»، وتوسّعت إلى إعادة هيكلة القطاع العام. بينما المحصّلة الثانية فتلك المتعلقة بالمناقصات وقد عُدّلت حينَ كانت شدياق في الوزارة، وسمّيت بمنظومة شراء عام أقل عرضة للفساد، واعتمدت في مقاربتها على وزارة المالية ومعهد باسل فليحان المالي، مع الإبقاء على المخرجات والفترة الزمنية ذاتها، واعتمدها قطار أيضاً. ورغم المسار الطويل المستمر منذُ سنوات وإقرار الاستراتيجية، قرّرت الحكومة تشكيل لجنة متابعة مؤلفة من 11 وزيراً حالياً لتقييم التطبيق!