Site icon IMLebanon

هجرة مضادة من الدول العربية إلى أوروبا

رغم الأهمية القصوى التي يوليها الزعماء الأوروبيون للأزمة اليونانية، إلا أنهم لم ينسوا الأزمة الأخرى التي تطرق بوابة أوروبا الجنوبية، أي قضية المهاجرين عبر المتوسط. فهذه القضية الأخيرة تؤرق ضمائر ملايين الأوروبيين الذين يتعاطفون مع اللاجئين، وتدفعهم الى التحرك للضغط على حكوماتهم وعلى الاتحاد الاوروبي من أجل «اتخاذ موقف واضح وجماعي يضمن توفير ملاذ آمن للهاربين من الحروب والقمع»، كما جاء في بيان قوي للمرصد الأوروبي لحقوق الانسان.

وتتردد أصداء هذه المطالبات بين لفيف واسع من الزعماء الأوروبيين، ليس فقط لأنها تتماشى مع مبادئ الحرية والاخاء الانساني فحسب، ولكن لعلمهم بأن القارة الاوروبية بحاجة ماسة ومتصاعدة الى الهجرة والمهاجرين. فغالبية الاحصاءات الاوروبية تدل على ان القارة تحتاج الى المهاجرين لأن عدد السكان يتناقص ولأنها في حاجة ملحة الى شباب يعوضون عن ارتفاع معدل الاعمار بين السكان والارتفاع المستمر في نسبة المتقاعدين. ومن أجل معالجة هذه المشكلة الاخيرة فقد جاء في أرقام نشرتها صحيفة «التايمز» البريطانية (23/7/2013) ان القارة الاوروبية بحاجة الى بليون وثلاث مئة مليون مهاجر لاعادة التوازن الديموغرافي الى أوروبا، وذلك بحسب احصائيات أعلنها المكتب البريطاني لمسؤوليات الموازنة العامة.

ازاء هذه الارقام، تبدو المشكلة الاخيرة التي يواجهها الاتحاد الاوروبي قابلة للحل السريع. فأمام القمة الاوروبية اقتراح بالسماح لستين ألف مهاجر- اكثريتهم الساحقة من الدول العربية – بدخول القارة على ان يتم توزيعهم على دول الاتحاد وذلك بحسب كوتا تأخذ بعين الاعتبار حجم الدول وقدراتها. ومن المفروض الا يكون هذا الاقتراح موضع جدل واسع، لأن الدول المعنية قادرة على استيعاب هؤلاء المهاجرين من دون عناء كبير. ولكن الاقتراح لم يمر بسهولة في اجتماعات القمة الاوروبية الاخيرة لأن بعض الدول، مثل هنغاريا، رفضت ان تستقبل هؤلاء المهاجرين بخاصة إذا حلّوا فيها وفقاً للكوتا المقررة.

ان الخشية هي، كما قال مندوبو الدول المعارضة للإقتراح، ليست من العدد المحدود من أصل الستين الف مهاجر، بل من باب الهجرة الاوروبية المفتوح الذي سيتدفق عبره مئات الالوف بل الملايين من المهاجرين مستقبلاً، فيجري توزيعهم بصورة تلقائية وفقاً لقاعدة الكوتا المقررة. وما يزيد الدول المعارضة تمسكاً بموقفها السلبي تجاه اقتراح المفوضية الاوروبية، هو ان الهجرة العربية الى اوروبا لم تعد مقترنة بصور مهاجرين ينافسون ابناء البلاد في سوق العمل فحسب، بل باتت تقترن ايضاً بصور مهاجرين ينقلون الى القارة مشاهد التعصب الديني والعنف والخلايا النائمة والسلوك الدموي، هذا فضلاً عن المخاوف من «أسلمة» أوروبا و»تعريبها».

ان هذه المشاهد لا تعبّر عن واقع الملايين من المهاجرين العرب الذين حلّوا في اوروبا. فأكثر المهاجرين العرب الذين يقارب عددهم السبعة ملايين، جاؤوا الى اوروبا طلباً للأمان والعمل، وهم ليسوا مستعدين، كما يقول الناشطون بينهم، للانخراط في أي عمل أو نشاط يسيء الى أمن دول القارة واستقرارها. ومن مراجعة سجل الاكثرية الساحقة من هؤلاء المهاجرين، يمكن التأكد من انهم ليسوا أقل من غيرهم حرصاً على استقرار البلدان التي يقطنونها. فاذا كانت اوروبا فعلاً بحاجة الى مئات الملايين من المهاجرين، فإن من شأنهم ان يكونوا نموذجاً طبيعياً للمهاجرين المطلوبين، وان يساهموا مع ابناء القارة في حمايتها من «الشيخوخة» ومن الثغرات الديموغرافية التي قد تنال من حيويتها وتقدمها. بذلك لا تكون القارة الاوروبية قدمت خدمة للمهاجرين فحسب، وانما قدمت خدمة موازية ايضا الى المواطنين الاوروبيين.

يضيف بعض المهاجرين العرب حافزاً آخر لتحكيم الاعتبارات الانسانية في النظرة الى قضية المهاجرين العرب الى اوروبا. يقول هؤلاء ان قسطاً واسعاً من المعضلات السياسية والاقتصادية التي ألمت بالمنطقة العربية خلال العقود المنصرمة له صلة وثيقة بقضية الصراع الاسرائيلي-العربي. ولقد تبنت القوى الاوروبية، على اختلاف عقائدها الفكرية والسياسية المشروع الصهيوني، وانفاذاً لهذا المشروع فتحت القوى الاوروبية المعنية باب الهجرة غير المشروعة امام الصهاينة الاوروبيين لكي يمارسوا عملية غزو منظم للأرض الفلسطينية وللفضاء العربي، ولكي يصهينوا فلسطين، وينزعوا عنها هويتها الوطنية. كذلك ساعدت بعض القوى الاوروبية على تنفيذ المشروع الصهيوني بالقوة وعلى تزويد اسرائيل بالسلاح الذري، وعلى امدادها بأسباب الاستقرار والمناعة الاقتصادية والسياسية. بذلك سهلت اوروبا للاسرائيليين طرد الفلسطينيين من بلادهم وحرمتهم حقهم الطبيعي في اختيار مصيرهم والتعبير عن هويتهم الوطنية. ونظراً للترابط بين الفلسطينيين وسائر العرب، فان الآثار المدمرة لتنفيذ المشروع الصهيوني على الارض العربية لم تقتصر على فلسطين وانما لا تزال تتفاقم على كافة الاراضي العربية وبخاصة المجاورة لاسرائيل.

ان هذا الفصل من الفصول التاريخية المأسوية في تاريخ المنطقة يرتب على الحكومات الرئيسية في القارة الاوروبية مسؤولية معنوية تجاه المنطقة العربية وتجاه الاقطار التي تزال تعاني من مضاعفات تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين وفي الاراضي العربية المجاورة. ان النخب السياسية الاوروبية لا تغفر لما ارتكبه النازيون والفاشيون وغيرهم من العنصريين في القارة من جرائم مرعبة بحق اليهود، بخاصة اليهود الاندماجيين الذين كانوا يعتبرون انفسهم مواطنين طبيعيين ومخلصين للمجتمعات الاوروبية التي انتموا اليها.

لقد فتحت القوى الاوروبية، بالقوة، أبواب الهجرة غير المشروعة الى فلسطين، فكان ان فتحت الباب ايضاً أمام صراعات مستمرة ومتفاقمة في المنطقة. ويستطيع الاتحاد الاوروبي والقوى الاوروبية الرئيسية السير على طريق تصحيح هذا الخطأ التاريخي والتعويض على ضحاياه الكثيرين في المنطقة، اذا نظرت الى موضوع الهجرة العربية الى اوروبا بمنظار انساني، أي بالتساهل مع طالبي اللجوء الى القارة الاوروبية. وسيكون لهذا الموقف الأثر الكبير اذا اقترن بجهود حثيثة لازالة الاسباب التي حدت بالمهاجرين الى مغادرة بلادهم، فيعودون اليها متى زال شبح الحرب وعاد الامان الى بلادهم. ومن المؤكد ان عودة هؤلاء الى بلادهم ستقترن بتقدير مزايا الانظمة الديموقراطية المنتشرة في القارة الاوروبية.