IMLebanon

مكافحة الإرهاب بين أفول تركي وصعود أزهري

 

 يذكّر الخطاب المتعارض بين الرئيس التركي وبابا الفاتيكان بكثير من مناظرات أوائل القرن الماضي وأواخر القرن الذي سبقه، بين شرق وغرب، إسلام ومسيحية، طوائف ومذاهب، أكثريات وأقليات… إذ أنه بتناوله شؤون الحاضر «الإرهابي» يعيد فتح ملفات التاريخ التي بدا أنها حُسمت قبل أكثر من مئة عام بانتزاع دول أوروبية فرمانات من السلطان العثماني تعترف لها بامتياز رعاية الأقليات وحمايتها، ومنها المسيحيون، واستمر هذا الامتياز بأشكال مختلفة مع نشوء الدول الوطنية العربية. لكن ضعف الدولة أمام موجات التطرّف الديني (الإسلامي) وصعود تنظيمات الإرهاب قادا إلى تراجع تلك «الرعاية» أو «الحماية» وتلاشيها.

ففي عراق ما بعد الاحتلال الأميركي أدّى «تواطؤ» عوامل عدة (طبيعة النظام الجديد، صراعات على السلطة، وعمليات إرهابية لفرع «القاعدة») إلى تهجير أعداد كبيرة من المسيحيين، أما تنظيم «داعش» فعمد إلى اقتلاعهم من الموصل. وفي سورية، على رغم خرافة «النظام الحامي للأقليات» حمايةً لنفسه فحسب، دمّرت جرائم النظام وأخطاؤه استقرار الجميع بلا استثناء بمن فيهم المسيحيون والعلويون، لكن مع استهداف مركّز للسنّة. أما في مصر فبدأ نزيف هجرة الأقباط في عهد النظام السابق على وقع تطرف وتهميش متناميين ولا يزال مستمراً بهدوء وصمت. وفي فلسطين أمعنت حال الاحتلال الإسرائيلي في تيئيس المسيحيين من مستقبل وجودهم هناك، فلا الفاتيكان (المتصالحة مع اليهودية) ولا الدول الغربية (حامية إسرائيل) احترمت وطنيتهم ورفضهم للاحتلال إسوة بالمسلمين. وفي لبنان، حيث اعتُمد دستور يمأسس الطائفية ويجعل المكانة الخاصة للمسيحيين في النظام بمثابة ميثاق وطني، غدا تحالف بعض المسيحيين مع النظامين السوري والإيراني وأجنداتهما المعادية للمحيط العربي تهديداً للميثاق والتعايش ومجازفةً بوضع المسيحيين ومساهمةً مع دمشق وطهران في استعداء الاعتدال الإسلامي وفي افتعال الاستفزاز للتطرف السنّي واستدعائه.

حفلت زيارة البابا فرنسيس إلى تركيا برموز روحية تصالحية، من صلاته في الجامع الزرق مع مفتي إسطنبول رحمي ياران، إلى قداسه المشترك مع البطريرك المسكوني الأرثوذكسي برثيلماوس الأول، أما الرموز السياسية غير المتطابقة فجعلتها الحدّة التي باتت ملازمة لأردوغان تبدو أقرب إلى التنافر. فالبابا والبطريرك أكدا رفضهما «شرق أوسط من دون المسيحيين»، وعلى رغم علمهما بمحدودية الاهتمام الدولي فإنهما طالبا المجتمع الدولي بـ «رد مناسب»، داعيين المسلمين والمسيحيين إلى «العمل معاً من أجل العدالة والسلام واحترام كرامة كل إنسان وحقوقه خصوصاً في المناطق التي عاشوا فيها لقرون جنباً إلى جنب بشكل سلمي والآن يعانيان معاً من أهوال الحرب». وقال البابا أنه خلال لقاء مع أردوغان دعا القادة الدينيين والسياسيين والمثقفين في العالم الإسلامي إلى إدانة الإرهاب «بوضوح»، معتبراً أن «جميعنا بحاجة إلى إدانة شاملة» لهذه الظاهرة. وكان الموقف الذي عكسته تصريحات الرئيس التركي، مع الإدانة الضمنية للإرهاب، أكثر هجساً بـ «الإسلاموفوبيا» الغربية، وحتى محاولته التمايز عن السنة والشيعة معاً وظّفها لمواصلة معاركه الإقليمية سواء مع مصر («إقصاء القادة المنتخبين عبر الانقلابات»، و»قتل من يطالبون بحقوقهم في الشوارع») أو مع النظامين السوري والإيراني اللذين يتفرّجان على «الأطفال القتلى وعلى ثلاثمئة ألف قتيل بريء وسبعة ملايين نازح في سورية».

منذ ظهور تنظيمات الإرهاب وبلوغها العالمية مع «القاعدة» كان ملحّاً على المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي أن يكون لها موقف «واضح». ومع صعود «داعش» أصبح الأمر أقرب إلى الواجب الوجودي، وإلا بدت المؤسسة كأنها محرجة أو مربكة بكون هذا التنظيم سمى نفسه «دولة إسلامية» أو لأن زعيمه أعلن نفسه «خليفة» أو لأنه يستمد لممارساته الوحشية تبريراً «شرعياً». وقد فُسّر بعض الصمت والتهرّب من جانب علماء أو أئمة وحتى من سياسيين بأن المسألة لا تتعلق بـ «داعش» نفسه بل بمنظومة السياسات (الغربية خصوصاً، والعربية أحياناً) التي اخترعته وصنّعته ووظّفته في خدمتها. كان بإمكان الرئيس التركي أن يعطي ولو بداية موقف «واضح» ليستطيع بعدئذ تمرير أجندته النقدية، لكن «إخوانيته» حالت دون انتهازه فرصة وجود البابا في إسطنبول، ليس فقط لتأكيد موقع تركيا كـ «جسر طبيعي» بين الغرب والشرق وذات دور نموذجي في الحوار بين الثقافات، بل إنه تجاهل مسائل تخص المسيحيين في تركيا ومنها إغلاق المدرسة الإكليركية للبطريركية الأرثوذكسية وعدم إعطاء الكنيسة الكاثوليكية وضعاً قانونياً.

في هذا السياق يحاول الأزهر أن يقدّم «النموذج المصري» في مؤتمر يقيمه الأسبوع المقبل تحت عنوان «مواجهة التطرف والإرهاب» ودعا إليه ممثلين لمختلف الأديان والطوائف والأقليات التي تعرضت للاضطهاد، بغية الخروج بموقف شامل و»رؤية مستقبلية للخروج من العبث والتخبط الحاليين»، وفقاً لوكيل الأزهر عباس شومان. وأُريد في التحضير العميق لهذا المؤتمر أن يتناول مفاهيم شائعة كـ «الدولة الإسلامية، الإرهاب، الجهاد، التطرف، التكفير والإلحاد» وانعكاسها على المجتمعات العربية والإسلامية في أزمات سياسية وفكرية واقتصادية، ما هدد السلم العالمي. يشعر الأزهر بالمسؤولية ويريد مواجهة «علمية – فكرية» مع «الأفكار المنحرفة» بل إن النقاش سيتطرق إلى مسألة «المواطنة» لـ «الخروج بوسائل للعيش المشترك بين البشر… ومن خلال الأديان». وفي مجال التحضير للمؤتمر أيضاً جدّد الأزهر نبذه وشيوخه «علماء المسلمين الذين يمسكون العصا من النصف ولا يعلنون نبذهم للعنف والإرهاب وتبرئة الإسلام من تلك التهمة»، وكذلك عدم الاعتراف «بعالمٍ يتوانى عن استنكار أي عمل إرهابي ضد أي فرد أياً كانت ديانته أو ضد أفراد القوات المسلحة والشرطة أو أي شخص في حماية مصر»، ومع رفض الأزهر لمسائل «الولاية» و»السلطة» على أي أحد أو على الإعلام جرى أيضاً تأكيد توافر «الإرادة السياسية» لاستكمال التعديل الذي بدأه في 2013 لمناهجه.

لا شك أن الكثير من المحنة التي يتعرض لها مسيحيو الشرق يمكن أن يُعزى إلى التطرف المتنكّر بالدين، ولعل بعض الاهتمام العالمي بهذه المحنة يساهم أيضاً في تخليص المسلمين أنفسهم الذين بات العنف الإرهابي يفتك بهم يومياً، ويجري التعامل معهم كأنهم ضحاياه الطبيعيين أو المنطقيين لمجرد أنهم «مسلمون». بعد شهور على ظهور «داعش» ومباشرته تحقيق مشروعه لـ «الدولة الإسلامية»، وبدء الحرب ضدّه، ينبري الدين بمؤسساته ورجاله إلى الواجهة كمنقذ مفترض. لكن هذا الوحش الهائج، الذي يتنافس الجميع على التبرؤ منه، لم يولد بالأمس ولا جاء من فراغ، بل إنه ظهر بعد أعوام من محاولات حوار بين الأديان والمذاهب كان يفترض أن تحول دون وجوده، لو أن المشكلة تكمن فقط في خطابه الديني. ينبغي إذاً البحث عمن شيطن هذه العقول وعسكرها، فكثيرون عبثوا بها طويلاً واستخدموها في كل الأهداف القذرة، ولذلك لا يستطع أحد أن يقدّم تشخيصاً للظروف التي صنعتها أو يحدد جهة احتضنتها وجعلتها ما هي عليه اليوم. وفي حال «داعش» تحديداً، لا مصلحة للعديد ممن يحاربونه، أو يدّعون ذلك، في أن تُعرف الحقائق. فحتى النظام السوري نظّم قبل أيام مؤتمراً «دولياً» لمناهضة الإرهاب، وقبله دعت إيران مرات عدة إلى فعاليات مماثلة.

بين الاعتبارات البابوية والمبادرة الأزهرية يبقى الدين في حد ذاته قاصراً عن معالجة الظاهرة التي تتولّى السياسات الدولية التعامل معها بالعقلية ذاتها، ولا قدرة للدين أو للفاتيكان على التأثير في تلك السياسات. فقبل أعوام كان «النموذج التركي» قبلة الأنظار، والآن ربما يبدأ الرهان على «نموذج مصري» في مواجهة المفاهيم «الخاطئة» أو تغييرها بهاجس «تبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب»، لكن من يغيّر المفاهيم التي تتعامل بها السلطة السياسية مع الشأن الإرهابي بأساليب تكفل إعادة إنتاجه.