Site icon IMLebanon

أنطوان نجم: طبِّقوا الفيدرالية ليرتاح لبنان

 

الوطن يتغيّر وكل الطوائف تسأل: ماذا غداً؟

 

“وصيتي، لا تخافوا من الحرية، لا تخافوا من التغيير، لا تخافوا من الإنفتاح ومن النقد الذاتي ومن قول الحقّ واقتحام المستقبل ومواجهة الصعوبات والضلال والإنحراف. إلتزموا من غير أن تستزلموا”. أنطوان نجم، أستاذ المقاومة اللبنانية، الذي كتب وصيته بالعقل والقلب الى الأجيال الجديدة، مضى على طرحه الفيدرالية نظاماً أكثر من خمسين عاماً، حتى بات إسمه مرتبطاً بها. فلماذا هذا الإنحياز التام الى الفيدرالية؟ فلنعد معه الى البدايات التي عزّزت فيه هذه القناعة؟

 

مفكرٌ ومناضلٌ ومقاوم وفيلسوف وإنسان. هذا هو أنطوان نجم. حين يتحدث عن “وجع” الناس نشعر به يتألم، وحين يتحدث عن أخطار داهمة تعلو نبرته، وحين يسترسل في الكلام عن بشير (الجميل) يذرف دمعاً غزيراً. نجلس قبالته ساعات وننصت الى تواريخ من تاريخه جعلته يثق أن لا حل للبنان إلا من خلال النظام الفيدرالي.

 

باسمِ أمين ناجي كتب أول مرة عام 1976 في مجلة الصياد عن هذا النظام الذي ظنّه كثيرون غريباً. وكانت البداية. فلماذا طرح ما طرح؟ يجيب “أنا من قرطبا في قضاء جبيل، والدتي من برسا الكورة، وترعرت في طرابلس. وأول ما لاحظته في العام 1948، في حرب فلسطين، يوم كنت في مدرسة مسيحية، فيها مسلمون ومسيحيون، أن زملائي المسلمين قاطعوني. لم أفهم السبب. سمعتُ كلاماً كثيراً من نوع أنكم أنتم المسيحيين مع اليهود ضدّ المسلمين. وكم تمتمت: وما بالهم هؤلاء؟ أنا لم أفعل شيئاً فلماذا ينسبون إليّ ما لم أفكر حتى به. وذات يوم قال لي زميلي وهو من دير القمر، ولد في سوريا لوالد بعثي: الأستاذ يقيم ندوة فهل تريد الإنضمام إلينا؟ سألته: من يقصد بالأستاذ؟ أجابني الأستاذ ميشال (عفلق). لم يعنِ لي هذا الإسم شيئاً فأنا أنتمي الى بيت غير مسيّس. وعرفتُ لاحقاً أنه مؤسس حزب البعث. ذهبنا الى منطقة أبو سمرا حيث أقيمت الندوة في بيت الأدهمي. شبابٌ كثر. وحماسة شديدة. وكثير من التصفيق. سمعت عفلق يتحدث عن العروبة ومولد الرسول. سمعته يربط الدين الإسلامي بالعروبة. كنتُ جامداً أنصت فشعر بي عفلق فسألني: ما بك يا شاب؟ أجبته: أشعر بك وكأنك تسلخني من جلدي. عدتُ الى منزلي مليئاً بالأفكار. سألتُ والدي عما سمعته فأجابني: “نحن يا إبني أولاد الجبل أولاد الحرية ولبنان”.

 

لم ينس أنطوان نجم (مواليد 1934) مقاطعة المسلمين له، هو المسيحي، في 1948. هذه كانت نقطة مفصلية في مسيرته حددت لاحقاً كل مستقبله. ويقول: “قررتُ مواجهة هذا التيار. قرأتُ كثيراً. وفتشتُ كثيراً في طرابلس عمن يشبهون، بتفكيرهم، والدي. ولم أجد إلا الكتائب اللبنانية! ترددتُ الى بيت الكتائب في طرابلس. وفي العام 1955 قدمت محاضرة في اهدن ضدّ الحزب القومي السوري باسمي الخاص. وكتبتُ في صحيفة العمل مقالاً عنونته: “بدء نهاية الشيوعية”.

 

ماذا كان أنطوان نجم يريد أن يبرهن لنفسه ولكل الآخرين؟ يجيب: “أردتُ الدفاع عن لبنان. أردتُ المحافظة على المسيحية في هذا الشرق” ويستطرد “إنتقلتُ من طرابلس الى بيروت لمتابعة دراستي الجامعية. درستُ الفلسفة. وكنت قريباً من أساتذتي رينيه حبشي (الفيلسوف المصري) واسد رستم (أهم مؤرخ في الشرق الأوسط) وفؤاد افرام البستاني (الأديب والمؤرخ وكان حينها رئيس الجامعة). وحكينا كثيراً عن لبنان”.

 

هذا ما حصل مع الشيخ بيار

 

مرّ الوقت. ويسرد نجم: “في العام 1958 كنتُ في قلب المعارك، ليس من خلال البندقية بل بالقلب والعقل. إنتهت أحداث ذاك العام وذهبتُ الى إجتماع كتائبي في المجلس المركزي. وكان الشيخ بيار الجميل قد عُيّن وزيراً في حكومة رباعية تشكّلت من موارنة وسنّة حصراً. دخلتُ الى مكتبه وسألته: هل في لبنان طوائف غير الموارنة والسنة؟ أجابني: نعم. قلتُ له: وماذا عن تمثيل الآخرين في الحكومة؟ وعدتُ وسألت في الإجتماع العام: نحن، في الكتائب، نريد لبنان أكبر من حجمه أم أصغر من حجمه؟ أجابني مؤسس الحزب: نريده بحجمه لا أكبر ولا أصغر. قلتُ له: ولماذا لا نتمثل جميعاً بنفس العدد؟ حصل نقاش وقامت القيامة عليّ. لكني أضفت: هناك مسيحيون في طرابلس يأتمرون بأوامر رشيد كرامي ومسيحيون في الجنوب يفعلون ما يشاء كامل الأسعد. حينها قال لي الشيخ بيار: “قل لي ماذا تريد؟ أجبته: أريد قانوناً ينصف الجميع. لأنكم إذا لم تفعلوا ذلك الآن فسنصل الى نهاية القرن (الى العام 2000) و”تركب” المناصفة غصباً عن الجميع. وأتى الجواب حينها: فلنعش الى سنة 2000″.

 

عُيّن نجم لاحقاً رئيس مصلحة العقيدة في حزب الكتائب. وكان أول من كتب في العام 1966 “فلسفة العقيدة الكتائبية”. وهمه استمر “كيف يمكن التأسيس للبنان يجمع بدل أن يُفرّق؟”. ويقول: “بدأتُ أكتشف فكرة أساسية في لبنان هي أن الواقع المجتمعي أقوى من الدساتير والقوانين. في العام 1973، بعد معارك حماه، إتصل بي الشيخ بيار ودعاني الى بكفيا. صعدتُ مع كريم بقرادوني وكان هناك عاصم قانصو وزهير محسن. ويومها قلتُ لهم: حافظ الأسد يريد أن يسيطر على لبنان ولن ندعه. والعلاقات بين البلدين يفترض أن تكون ضمن الإحترام ومراعاة الخصوصية. بعدها كتبت عن القومية اللبنانية. وبدأت “تركب” في رأسي فكرة وجوب إيجاد نظام “فورمول” يسمح لنا مسيحيين ومسلمين العيش معاً. ذهبت بطلبٍ من وزارة التربية الى كندا للمشاركة في مؤتمر، وهناك تعرفت على الفيدرالية. ولمع فوراً في رأسي أن هذا النظام يحمي لبنان العيش المشترك.

 

 

مع بشير

 

في كانون الأول عام 1975 إلتقيتُ أول مرة بالشيخ بشير (الجميل)، في حضور جوزف أبو خليل. أتيا الى منزلي وقررنا حينها “المقاومة” والخطة العامة. وتكلمنا بتفاصيل شتى. تحدثنا عن الجار المسلم، عن إبن البسطة، الذي لا يمكننا أن نتحدث معه إلا بعد المرور بالعراق وسوريا وليبيا واليمن والسعودية والفلسطينيين. وتحدثنا عن دمشق التي لا يمكننا الكلام معها إلا عبر واشنطن. بحثنا في كل الأبعاد والتفاصيل. ورأى بشير يومها أن تحقيق الفيدرالية في لبنان يعالج التصادم اللبناني- اللبناني كونه يحقق العدالة بين الجميع بدل شعور فئة بالغبن والظلم.

 

يغوص المفكر أنطوان نجم في تفاصيل التفاصيل، ويتدارك بعضها طالباً “عدم النشر الآن”. ويقول: “إتفقنا أنا وموسى برنس على فكرة الفيدرالية لكن ليس على نفس التفصيل. ومن يرفضون هذا النظام في المطلق إنما يفعلون ذلك لأنه يمنعهم من التحكم بالطوائف الأخرى. ويستطرد: إستغرقت بلورة هذه الفكرة 15 عاماً. وأنا لا أريد أن تطبق الفيدرالية دفعة واحدة بل على مراحل. وأكرر هنا، أن الشيعة لن يتركوا السنة يحكمون ولا السنة سيسمحوا للشيعة بأن يحكموا. لذا لا بُدّ لهما في النهاية القبول بالفيدرالية. ولا بُدّ لهذا النظام أن يأتي بموافقة الأكثرية اللبنانية حتى يتحقق. وهو يحتاج الى ثلاثة شروط: رأي عام لبناني، موافقة جامعة الدول العربية وضمانة الأمم المتحدة”.

 

الفيدرالية هي الحلّ

 

الفيدرالية قد تكون مشروع حلّ، بحسب أنطوان نجم “لا بل هي الحلّ شبه الوحيد” ويشرح “أعددتُ مشروعاً لإنشاء أحزاب طوائفية بتكوين فيدرالي. بمعنى أن يكون لكل طائفة إستقلاليتها ضمن الحزب الواحد، وتكون على شكل فرع فيه. فرع السنّة وفرع الشيعة وفرع الموارنة وفرع الأرثوذكس… وان يشكلوا معاً مجلساً رئاسياً مشكلا من 19 طائفة في الحزب واحدة منها للعلمانيين، على أن يلتقوا من خلاله في البرامج لا في الإيديولوجيا. هي أحزاب برامجية جوهرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.

 

كثيرون من المسلمين والمسيحيين يقصدون في الأمسيات منزل المفكر أنطوان نجم ليفهموا أكثر البعد الفيدرالي الذي يريده ليبقى “لبنان- لبنان”. هناك وزراء وأولاد وزراء وشخصيات سنية كثيرة تسأل كثيراً. ويقول نجم: “بدأت الفكرة في الستينات وبدأنا التحضيرات في التسعينات وها نحن اليوم نشهد قبولاً لها من أشخاص حاربوها من دون أن يفهموها”.

 

ماذا عن الأحزاب الموجودة حالياً في لبنان؟ هل تصلح لتنخرط في النظام الجديد؟ يجيب نجم: “لا، لا لأنها أخذت لوناً وطابعاً”. ما دام ليس لها مكان فكيف ستقبل به؟ يجيب “حين تقتنع أن كل طرف في هذا النظام يأخذ حقه مئة في المئة. فلا مخرج للبنان من دونها. لا خلاص له من دون تطبيق الفيدرالية. هناك 27 دولة فيدرالية في العالم تضم نحو أربعين في المئة من سكان العالم. والقتال في سويسرا لم يكن ليتوقف لولا إعتمادها النظام الفيدرالي”. كلام كثير وتفصيل أكثر يغوص فيه أنطوان نجم حول لبنان والطوائف والأرض والنظام الذي قد يُشكل خلاصاً. وفي كلها تبقى الفيدرالية الحلّ الممكن لأن فيها مساواة ولا يمكن لأي نظام في لبنان أن يحيا إلا إذا كان قائماً على المساواة التامة. وأي نظام يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لن يعيش في هذه الأرض.

 

يُصغي أنطوان نجم في هذه الأيام الى من يتحدثون عن نظام جديد للبنان ويبتسم. فهؤلاء لا يعرفون أن لبنان لا ولن يُشبه سواه. لبنان هو البلد الذي يفترض أن يتساوى فيه الجميع. ويختم: “لا أتمسك بحرفية مشروعي بل بجوهره”.