أن تستيقظ على صورة “انطون” مرفقة بعبارة “توفي”، هي السكون بحدّ ذاته. أحياناً، يمكن لوجه وكلمة أن يختصرا معنى حياة: ثانية واحدة قد تغيّر مجرى الكون. تخبطك فجأة بملايين الأسئلة الوجودية. هكذا، ببساطة وهدوء، رحل انطون الخوري حرب. كيف يمكن لـ”جبل” أن يهوي بلحظة؟
بالأمس، توحّدت بروفايلات العونيين، وتحديداً الرعيل القديم منهم. كعادتهم في لحظات مماثلة. تصدّرت صور انطون الحسابات الافتراضية. الكل في حال صدمة. نبشوا آخر لقطات جمعتهم برفيق “الزمن الجميل”. آخر أقواله و”وصاياه”. زمن النضال والأحلام الكبيرة، حين كانت مغريات السلطة أشبه بنكتة سمجة لا يفكر أي منهم في سردها.
لم يكن انطون الخوري حرب مجرد “عوني”. كان أقرب إلى “الرمز”. أو “الجبل” الذي استند اليه القدامى في معركتهم الطويلة خصوصاً في لحظات الهبوط والإحباط. ثائر منذ نشأته، في ربيع العمر وفي صيف نضوجه. ظلّ حتى آخر لحظاته ذلك الطفل المتمرّد الرافض للاستسلام. لا الخيبات قضت عليه ولا السنون العابرة نالت من عزيمته أو من نبضه المقاوم.
اختبر المقاومة بكل قماشاتها: من البزة العسكرية في العام 1989 عبر ما عرف حينها بـ”لواء الأنصار”، مروراً بقيادة الحركة الطالبية في “التيار الوطني الحر” حيث خاض تجربة “الاعتقال” أكثر من مرة، وصولاً إلى منبر الأستاذ في الجامعة اللبنانية، إلى حين ترشّحه في العام 2018 إلى جانب مستقلين ومنتمين إلى الحراك المدني عن دائرة الشمال الثانية.
القيادي العوني السابق استقال من “تياره” في 15 آب من العام 2015، خلال مقابلة تلفزيونية، عشية “انتخاب” جبران باسيل رئيساً للحزب، قال خلالها: “الديموقراطية انتهت في “الوطني الحر” ولذلك أعلنت استقالتي اليوم في ذكرى اليوبيل بعد 25 عاماً من وجودي في التيار”، مؤكداً أنّ “عملية انتخاب خلف للرئيس ميشال عون كان من المفترض أن تكون عملية ديموقراطية تشجع باقي الأحزاب السياسية، لكن يبدو أن هناك استثناء”.
هو من مؤسسي “التيار العوني”، من قلبه النابض، الطلاب. وكانت بداياته من كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية ليقود من بعدها الحركة الطالبية العونية حين كانت السلطة تعتبرها “جرثومة” تسعى إلى التخلص منها. أسس الكثير من المجموعات الحزبية في الشمال، وفي البترون تحديداً، وكانت له بصماته في الجامعة اللبنانية. كما كان له في وجدان “المؤسس” العماد ميشال عون مكانة خاصة.
ابن تنورين، يحمل اسم جده، زعيم آل حرب ومؤسس تلك العصبية. لم يقف انتماؤه إلى “الوطني الحر” بينه وبين أهالي مدينته الذين أحبوه وبكوه بالأمس على أثر الفاجعة.
أبو “أدونيس”. الطفل الذي منحه بعضاً من بركة الحياة وتعويضها، رافق والده في آخر صوره، مع ابتسامتين على الوجه قبل أن يودعا بعضهما بعضاً للمرة الأخيرة. لكن أدونيس لن يكون يتيماً، ثمة العشرات من “رفاق” الوالد الذين وعدوه بأن يكونوا له أكثر من والد.
أي من الرفاق أبى أن يودّع “المحارب العتيق”. الكل ضرب موعداً للقاء مرتقب في يوم ما. هو بالنسبة لكل من عرفه: المحبوب، الآدمي، المبدئي الذي رفض المساومة أو الانكسار. والأهم من ذلك، المظلوم.
يُجمع محبوه على أنّه أعطى “التيار” كل ما عنده. وللإنصاف، أعطى القضية ومبادئها وقيمها كل مسيرته، إلى درجة أنه لم يتذّكر حياته الشخصية إلا منذ سنتين فقط حين قرر الارتباط وتأسيس عائلته الصغيرة.
من خصال أنطون فائض الحماسة التي لم تخب يوماً. وعلى قدر اصراره على الإلتزام بما تصدره القيادة العليا من أوامر، كان لديه دوماً جنوح نحو مبادرات ذاتية تخدم بنظره القضية. ما لا يعرفه كثيرون عنه أنه كان من أوائل من طرحوا على الرئيس السابق اميل لحود مشروع عودة الجنرال ميشال عون إلى بيروت بالتنسيق مع الرئيس السابق لحزب الكتائب كريم بقرادوني.
بالأمس، اختار العونيون ما قلّ ودل من العبارات في رثاء “صديق العمر”. ومنهم من نبش شريط فيديو قديم يوثّق تلك “اللحظات الجميلة” حين كان بعض الشباب موقوفين في ثكنة الحلو، أيام النضال ضدّ النظام السوري. فيما انطون يتقدم المتظاهرين المطالبين بإطلاق سراح رفاقهم، إذ بأحد الضباط يتقدم منه ويبلغه بضرورة فضّ “تظاهرة الولاد” بناء على أوامر أعطيت له. فيرد انطون ببرودة أعصاب ويقول: وأنا أيضاً لدي أوامر بإكمال التظاهرة مهما حصل.
ذلك كان طوني…
وفي اتصال مع إدارة مستشفى تنورين، أكد رئيس مجلس إدارة المستشفى الدكتور وليد حرب لـ “نداء الوطن” أن أنطون نقل ظهر الاثنين إلى المستشفى وهو في حالة غيبوبة، وأجريت له جميع الفحوصات وتبيّن أنه يعاني من إلتهاب رئوي حاد وخضع للتنفس الاصطناعي، وأدخل غرفة العناية الفائقة، وعند الساعة الثالثة من فجر الثلثاء توقّف قلبه وما لبث أن فارق الحياة”.