الصلاة للسلام لا للإستفزاز
…وكأننا في الجنّة. وكأن كل ما حولنا «تمام» وفجأة لم يعد من مشاكل في بلادِنا إلا أن لا مصلّى في جامعة الآباء الأنطونيين في بعبدا ولا مشاكل تحوم فوق رؤوسنا إلا شغب البرتقاليين في مساحات الحوار. فلنبق في المصلى. لا يختلف اثنان طبعاً على أن الصلاة راحة وفرج وطوق نجاة لكن أن تتكرر قصة إبريق الزيت في حرم الجامعة، وتتجدد مطالبة طلاب مسلمين شيعة بإقامة مصلى في الجامعة المسيحية المارونية، وحصول هرج ومرج حول ذلك، لهو أمرٌ يستحقّ أن نتوقف عنده والسؤال: هل هي قصّة رمانة أم قلوب مليانة؟
هاشتاغات تُقصف على كل الجبهات: #أموالنا_حلال_وديننا_حرام و #قاطعوا_الجامعة_الأنطونيه. فلماذا يحصل ما يحصل؟ قبل عشرة أعوام بالتمام والكمال حصل ما نراه اليوم من قِبل 37 (طالباً) قالوا إنهم يريدون الصلاة. الصلاة طبعاً مطلوبة. وهي مفتاح كل خير وسلام وليست مساومة وتحدياً. فهل الدعوة الى الصلاة المتجددة في حرم جامعة لها هويتها وتاريخها الرهباني سيناريو مدبر؟ سؤال يتكرر في مشهدية غريبة عجيبة. طلابٌ- يفترض أنهم أتوا للدراسة والتعلّم، خرجوا من صفوفهم الى الأرصفة لأداء الصلاة بشكلٍ جماعي معلنين أنهم يريدون مصلى في قلب الجامعة. البارحة، قبل عشرة اعوام، قال رئيس المدارس وقطاع التربية في الرهبانية الأنطونية آنذاك المدبر الأب جورج صدقه «إن الطلاب راحوا يصلون في الكنيسة والممرات والإدارة لم تمنعهم ما دامت صلوات لا يزيد عدد أفرادها عن أصابع اليد الواحدة، لكن ما حصل أنهم راحوا يجتمعون بالعشرات مطالبين بأقامة مصلى لهم أسوة بوجود كنيسة في الحرم الجامعي لكنهم أُبلغوا وبحسم رفض ذلك مذكرين إياهم أنهم في جامعة كاثوليكية مارونية ونظامها ينص، منذ أنشئت، على ذلك».
صمت «الأنطونية»اليوم، تكررت المطالبة. وخرجت الصور التي تنقل صلاة الطلاب الشيعة بالتحديد على قارعة الرصيف وتكررت الدعوة الى إقامة مصلى لهم. الجامعة رفضت فبدأ رمي الإتهامات يمنة ويسرة تحت عنوان: القمع الجامعي. مقدمين عريضة مطالبين بأن يسمح لهم بإقامة فريضة الصلاة في الجامعة وإلا مقاطعة الجامعة الأنطونية. رئيس الجامعة الأنطونيه الأب ميشال جلخ لا يريد الكلام فهو قال ما قال في بيان صدر باسم الجامعة. ونائب رئيس الجامعة الأب زياد معتوق خارج البلاد، ينام حين نستيقظ ويستيقظ حين ننام، وبالتالي لا يمكنه الكلام حالياً. الجامعة الأنطونية على ما يبدو تحاول أن لا «تزيد الطين بِلة» واختارت الصمت. لكن الطلاب اختاروا الحراك. مضى أسبوع وأكثر على ذلك وهم اختاروا أن يجولوا رافعين الصوت أمام مرجعيات دينية شيعية. فزاروا منذ يومين السيد علي فضل الله وطالبوه بالتدخل. فماذا قالوا وماذا قال أبعد من البيان الذي صدر عنه وفيه «ان الصلاة عنوان التقاء وأمر مشترك بين كل الأديان السماوية ولا يخلّ بالأنظمة والقوانين». نصغي الى مكتب السيد فضل الله علّنا نفهم ما أراد إيصاله «لا شيء مفتعلاً او مدروساً مسبقاً في فعل الطلاب لكن المشكلة ان الصلاة عند المسلمين لها وقت وهم حين يؤدون تلك الفريضة فإنهم يتعرضون الى كلمات نابية من سائقي السيارات التي تمرّ في الجوار، كما ان هناك كلاباً في المحيط، وهي نجسة عندنا وطهارة المكان شرط في صحة الصلاة» ويتابع الشارح «في جامعات اوكسفورد يسمحون بوجود مصلى اما هنا في لبنان، بلد التنوع، فهذا ممنوع. يقولون نحن جامعة كاثوليكية فليمنعوا وجود طلاب مسلمين فيها ولنقسم لبنان. الطلاب يريدون مكانا طاهراً يصلّون فيه ليتمكنوا من السجود والركوع بحرية».
من حقّ المسلمين الصلاة بالطبع لكن السؤال هل في منع إقامة مصلى في جامعة كاثوليكية رهبانية حقاً قمع؟ فلنسأل الأب جورج صدقه الأنطوني. يجيب «هؤلاء لا يريدون الصلاة بقدر ما يريدون القول ان لبنان كله لنا وما لنا لنا وما لكم أيضا لنا. الصلاة تكون للمحبة والسلام وليست تحدياً واستفزازاً. هذه جامعة كاثوليكية أنطونية لديها أنظمة فمن أحبّ الإنتساب إليها، وفق أنظمتها، فأهلاً وسهلاً به. وليصلوا أينما شاؤوا لكن ليس جماعات في قلب الجامعة. يتحدثون عن الحرية فليكونوا أحراراً لكن حرية الآخر تتوقف عند حريتنا. فإذا لم يكن في بيت خمر وأنا أشرب الخمر لا أقول لصاحب البيت أريد خمراً وأفتعل مشكلة. هم يتحركون في كل مرة ليقولوا: نحن هنا. إنهم يريدون أن يفعلوا ما يشاؤون من منطلق ديني».
لكن، هم يريدون مكاناً هادئاً يؤدون فيه الصلاة؟ يجيب الأب صدقه «هناك جامع يبعد ثلاث دقائق عن الجامعة. وهناك ثلاثة جوامع وأكثر قريبة فليذهبوا الى هناك في مواعيد الصلاة. هذا حقهم اما هنا فلا. الصلاة لله والسلام لا للحرب والإستفزاز». لكنهم يرددون ان الجامعة الأنطونية أخذت اموالهم الحلال وتنظر الى دينهم كحرام؟ يجيب الأب صدقه «نحن لم ننشئ جامعة للصلاة ولا نعلم الإيمان بل أنشأنا أكاديمية للثقافة والمعرفة والعلوم والحضارات الإسلامية والمسيحية والفارسية والأشورية أما الإيمان فأمر آخر. نحن نتقاضى أقساطاً لنعلم الكيمياء والفيزياء والرياضيات وليس الإيمان الإسلامي ولو فعلنا العكس فحقهم إسترداد أموالهم. الجامعة مساحة للرأي. هناك مطاعم في بيروت تمنع الكحول فهل أشاغب وأتشاجر مع أصحابها وأحطم أثاثها لأحصل عليه. هناك جامعات تمنع صوت فيروز فهل أنتسب إليها وأشاغب لأرفع صوت فيروز. الإيمان لا يكون بالقوة. زمن السيف ولى. لا يمكنني ان أذهب كمسيحي الى مكه بالقوة. ثمة أنظمة في كل مكان».
كلام الأب جورج صدقه الأنطوني واضح ويشي بأن الإستفزاز يحرك بعض الطلاب.
نعود الى دارة السيد علي فضل الله للسؤال كيف يتابعون القضية من جهتهم؟ يبدو أنهم أوكلوا هناك الصحافي قاسم قصير للتحدث في الموضوع مع الأب جلخ وسيُحدد موعد بهذا الشأن. لكن ما رأوه هناك بأن بيان الجامعة الأنطونية «أتى ليقفل على الحوار قبل أن يبدأ» ويقولون «أحد الطلاب قال لنا ان عدد الطلاب الشيعة في الجامعة ارتفع في الآونة الأخيرة الى 52 في المئة» ويستطردون «تراجع الطلاب عن طلب مصلى فنحن المسلمين لا نحتاج إلا الى مكان هادئ متر بمتر للصلاة» ويستطردون «البارحة زارنا الأب ميخائيل روحانا لدعوتنا الى توقيع كتابيه الجمهورية الخامسة والخلق من الحب. هكذا يكون الحوار».
الخصوصيات
الحوار جميل. إنه ضرورة. لكن، لماذا على الطلاب المسيحيين في الجامعات الإسلامية الإذعان ويفترض بالجامعات المسيحية الإذعان الى الطلاب المسلمين الشيعة تحديداً؟ لماذا هناك من يمنع فتاة أن تسبح في نهر الخرخار في عربصاليم بحجة أنها تدنس المكان وتستفز الآخرين في مكان له خصوصية يجب مراعاتها؟ في الجامعة الأنطونية أيضا خصوصية وهي أنها مسيحية كاثوليكية أنشئت للتعليم لا للإيمان فلماذا تُستفز؟ وهل يمكن لطلاب مسيحيين بناء كنيسة في مدارس السيد هادي أو في كلية الإمام الأوزاعي في الضاحية الجنوبية؟
لا يغيب الإستفزاز في الموضوع. لكن لنأخذ الموضوع ببساطة محاولين إيجاد حلٍّ له.
عند المسلمين، هناك صلاة الظهيرة وصلاة العصر، لكن بما ان غالبية الطلاب يأتون من خارج المنطقة، فهم يعدون في مفهوم الدين مسافرين ولهم بالتالي كل الحق أن يجمعوا صلاتي الظهيرة والعصر معاً الى حين يعودون من سفرهم اليومي. فعند الشيعة كل من يقطع مسافة اثني عشر كيلومتراً يومياً يعد مسافراً وله كل الحق في جمع صلواته. في كل حال كان يمكن للطلاب أن يؤدوا صلواتهم في شكل غير جماعي، منفردين. والمسلمون لا يؤدون عادة فريضة الظهر ولا حتى العصر في شكل جماعي، لكن ربما الطلاب لم يسألوا فقيهاً أو مستشاراً دينياً يُخبرهم ذلك أو يعرفون ذلك ويصرون على سواه.
الطلاب قد لا يعرفون لذلك يجب أن يأتي الحلّ من الفقهاء. هؤلاء وحدهم، ممن لا يستخدمون الطلاب وسيلة للقول: نحن هنا، سيقع على عاتقهم إخبار هؤلاء أن الدين صلاة وضمير وانفتاح لا سلاحاً يتم تصويبه على الآخرين كلما شاؤوا. والسيد علي فضل الله من المنفتحين على الأديان والحوار، اللهمّ أن تكون قابلية الآخرين على تطبيق مقولة: ما لا ترضاه لنفسك لا ترضاه لسواك.
نجول بين الطلاب. نجول بين الآباء. نسأل الطلاب المسلمين والمسيحيين. نسأل الجامعة ومن فيها. ونسمع كلاما مباشراً: «الدين ليس سلاحا يُفرض. الدين هو ما يجعل إنسانيتنا تكتمل».
من 29 الى 52%
على الهامش، على هامش ما حصل البارحة ويتكرر اليوم، هناك صوت يتكرر في بعبدا، في دهاليز الجامعة الأنطونية منذ أكثر من عقد، مقروناً بمباهاة: الأنطونيه قويّة الأنطونية عونية. يتبعه شعار آخر: الأنطونية عونية وعشرة بعيون الحسود. تمرّ الأعوام. تمرّ الشعارات. وتمرّ محاولات عديدة لتحطيم أنظمة والتأسيس الى مشهديات. في كل حال، ارتفعت في عقد نسبة الطلاب الشيعة ممن باتوا يعتبرون جامعة الرهبان الانطونيين معقلاً لهم من 29 في المئة في 2011 الى 52 في المئة في 2022. ومنذ انتشرت صور المصلين لم نسمع صوتاً عونياً يتطرّق إلى الموضوع. ولم يكن أحد ليسأل عن هوية الطلاب وطائفتهم ومذهبهم لولا فائض القوّة الذي يصرّ البعض على الظهور فيه. الطلاب لبنانيون أولاً وآخراً وليبقوا كذلك. وليصلوا كثيراً، كلّ على دينه، بدون إستفزاز. وليتركوهم بحالهم وليخبروهم بأن لكل جامعة نظاماً وهناك جامعات للرهبنة وجامعات إسلامية تتعايش معاً ولا يسحق بعضها بعضاً.
الجامعة، جامعة الرهبنة الأنطونية، تنوي على الأرجح تأمين مكان يصلي فيه من يشاء، ليس مصلى لكنه مكان هادئ يصلح للصلاة الفردية لا الجماعية. وتبقى دعوة من الجامعة الى كل كل طلابها: نتمنى لكم عاماً مليئاً بالنجاح.