على هامش المواجهة المفتوحة بين عمليتي «طوفان الاقصى» و»السيوف الحديدية» منذ 7 تشرين الجاري، برزت محاولة اسرائيلية جديدة للبحث عن ضحايا جدد من خارج حلبة النزاع، فاختارت الأمين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش ليكون في مقدّمهم، لتغطية جوانب من الفشل الذي مُنيت به اسرائيل للمرّة الاولى، والتغطية على جرائمها في غزة وضمان استمرار الدعم الدولي الأعمى لها. وعليه، ما هو الثمن الإسرائيلي الذي يمكن ان يدفعه غوتيريش؟ ومتى وكيف؟
بعدما توجّه وزير الخارجية الإسرائيلية ايلي كوهين في كلمته امام مجلس الأمن أمس الاول والمخصّصة للبحث في حرب غزة الى غوتيريش متسائلاً عن «أي عالم كان يعيش فيه»، وعمّا ادّى به الى عدم رؤية ما حصل صباح ذلك السبت، متحدثاً عمّن سمّاهم «ضحايا الشر» من «اطفال ورضّع اسرائيليين» سقطوا في العملية التي نفّذتها «حماس» في الكيبوتزات والمستوطنات الاسرائيلية الواقعة في غلاف غزة المحاصرة منذ سنوات. ولما اكتفى الوزير الاسرائيلي بالتعبير عن غضبه بإلغاء الاجتماع الذي كان مقرّراً مع غوتيريش، اعتبر عدد من اعضاء مجلس الامن انّ «موجة الغضب» ستقف عند هذا الحدّ، وانّه لا بدّ ان يتعرّض اي مسؤول أممي الى مثل هذه المواقف «الصعبة» متى حصل شيء مريب خارج عن المألوف.
ولكن، ولمّا استكمل سفير إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد اردان هجومه على غوتيريش وصولاً الى الطلب باعتزاله او إقالته، فهم الجميع انّ هناك محاولة اسرائيلية جادة لتحميله مسؤولية ما قام به سعياً الى مثل هذه الخطوة، ما لم يتمكنوا من تحقيقها بطريقة ما. وهكذا، فقد اكمل اردان ما بدأه رأس الديبلوماسية في بلاده، مستخدماً عبارات شبيهة بتلك التي استخدمها كوهين مستطرداً، ليعتبر أنّ خطاب الأمين العام للأمم المتحدة «أثبت بنحو قاطع بما لا يدع مجالاً للشك أنّه منفصل تماماً عن الواقع في منطقتنا»، وانّه «يرى بنحو مشوّه وغير أخلاقي المذبحة التي ارتكبها قتلة «حماس» بأطفالنا»، مختتماً تصريحه قائلاً: «من المحزن أنّ من يرأس منظمة أُقيمت بعد المحرقة شخص يمتلك هذه الآراء، أمر فظيع».
وقبل الدخول في القراءة الديبلوماسية التي رافقت وواكبت ولادة المواقف الاسرائيلية المفاجئة التي صدمت كثيراً من ممثلي الدول أعضاء البعثات الديبلوماسية المشاركة في الاجتماع، لا بدّ من إلقاء الضوء على بعض مما جاء في خطاب غوتيريش وأغاظ الوفد الإسرائيلي، وخصوصاً انّ الاسرائيليين كانوا يتربصون به منذ ان انتشرت تصريحاته في المنطقة تزامناً مع «قمّة القاهرة للسلام». فقد لفت غوتيريش، الذي كان عائداً للتو من جولة على معبر رفح وتخوم غزة، قبل ان يلتقي مسؤولين امميين مصريين وفلسطينيين، الى أنّ «المجازر التي ارتكبتها «حماس» لم تحدث من فراغ». رابطاً ايّاها «بالاحتلال الخانق الذي يعيشه الفلسطينيون على مدار 56 عاماً».
وما زاد في الطين بلّة، انّ غوتيريش، وبعد ان عبّر عن «شعوره بالقلق العميق من الانتهاكات الواضحة للقانون الإنساني الدولي»، فقد وجّه في خطابه اتهاماً مباشراً الى دولة عضو في مجلس الأمن الدولي، معتبراً انّ المساعدات الإنسانية التي سمحت إسرائيل بدخولها الى القطاع هي فقط «قطرة في بحر»، وانتقد بشدة «القيود المفروضة عليها»، معتبراً أنّ «الاستياء الفلسطيني لا يمكن أن يبرّر الهجمات المروعة لحماس». مضيفاً «أنّ هذه الهجمات لا يمكن أن تبرر العقاب الجماعي للفلسطينيين» من دون ان ينسى الاشارة الى انّه «وخلال الهجمات الإسرائيلية في القطاع قُتل على الأقل 35 من موظفي الأمم المتحدة».
وبناءً على ما تقدّم مما هو معلن عنه من مواقف ساوت في جانب منها انتقاده «حماس» وإسرائيل على حدّ سواء، فقد افاد تقرير ديبلوماسي ورد إلى بيروت في الساعات الاخيرة من أروقة الامم المتحدة في نيويورك، انّ هذه المواجهة قد لا تقف عند هذه الحدود فحسب. وانّ هناك نيات اسرائيلية لتحميل الامين العام مسؤولية ما حصل في تلك الجلسة ومحاسبته على تصريحاته التي أطلقها من بوابة غزة الوحيدة قرب معبر رفح، عندما واكب إدخال الدفعات الاولى من المساعدات الهزيلة التي أُدخلت الى القطاع منفّذاً جزءاً من المهمّات التي كَلّف نفسه بها، مطلقاً النداءات المتكرّرة لوقف ما جرى هناك. وهو ما اعتبرته الخارجية الإسرائيلية هجوماً ديبلوماسياً مسبوقاً يخفف من حجم التأييد الأعمى الذي نالته العمليات العسكرية الاسرائيلية في غزة كمبرّر للمضي بها، وخصوصاً بعد المجزرة التي ارتُكبت في منشآت المستشفى المعمداني.
وإلى هذه المعطيات، فقد تحدث التقريرعن أنّ في أروقة الامم المتحدة كلاماً قاسياً وصريحاً وضع المجازر الاسرائيلية في غزة في مكان ما تقدّمت فيه على ما جرى في مثيلاتها، التي تحدث عنها «التاريخان القديم والحديث»، كما قال أحد الديبلوماسيين الغربيين بعد كلمة غوتيريش، وهي لا تُقاس بحجمها وما حصدته حتى اليوم من ضحايا من نساء وأطفال بما انتهت إليه عملية «طوفان الأقصى» في المستوطنات الاسرائيلية وخصوصاً بعدما اضطر رئيس الولايات المتحدة الأميركية جو بايدن الى التراجع عن اتهاماته للمقاتلين الفلسطينيين بـ»ذبح الأطفال الاسرائيليين» تزامناً مع مسلسل الاعتذارات التي تقدّم بها مغرّدون وإعلاميون تبنّوا الحديث عينه في الأيام التي تلت العملية الحمساوية.
وفي اي حال، تقول مصادر ديبلوماسية، انّ امام مثل هذه الخطوة الاسرائيلية عقبات كبيرة، وانّ عليها ان تعتمد على آلية تستدعي توفير الإجماع الدولي في مجلس الأمن وصولاً الى إجبار غوتيريش على الاستقالة إن تمّت فبركة أي فضيحة يمكن ان تودي به إلى هذه النهاية. أما في حال الإقالة، فإنّها خطوة وان تبنّتها اي دولة ذات عضوية دائمة في مجلس الامن، فإنّ حق «الفيتو» من طرف آخر سيكون مصيدة لها. وهي خطوة غير مسبوقة في تاريخ الأمم المتحدة ما عدا تلك التي ذهب ضحيتها ثاني الأمناء العامين في تاريخ الأمم المتحدة كارل همرشولد، الذي تولّى مسؤولياته الأممية ما بين العاشر من نيسان عام 1953 وحتى 18 أيلول 1961، والتي انتهت بطريقة غير مسبوقة، وتحديداً عندما قُتل في حادث جوي غامض تعرّضت له طائرته في طريقه من الكونغو الى جنوب إفريقيا في 18 أيلول من ذلك العام.
والى من يربط ذلك الحادث بما هو مطروح اليوم، يكفي القول انّه هو من شملت مهمّاته في الشرق الأوسط دعماً لاتفاقات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية، وتعزيزاً للتقدّم نحو تهيئة أوضاع أفضل وأكثر سلاماً في المنطقة، وتشكيل قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة في عام 1956 وإدارتها منذ ذلك الحين، والمساعدة في حلّ النزاع المتعلق بـ «تطهير قناة السويس» في عام 1957 سلمياً، وتنظيم وإدارة فريق الأمم المتحدة للمراقبة في لبنان وإنشاء مكتب للممثل الخاص للأمين العام في الأردن في عام 1958. قبل ان يدفع الثمن حياته لقاء موقفه من أحداث جنوب إفريقيا في مهمّة وصفت بأنّها وضعته في مواجهة مع قادة «التمييز العنصري» الذي كان متحكماً بتلك البلاد كما في الأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم.