أفضل حتماً أن يوحي الأمين العام للأمم المتحدة الذي حلَّ بين ظهرانينا أمس بـ”بابا نويل” والرجاء بولادة الدولة، من أن يكون هدف قدومه تزويدنا بالأمصال والمسكنات قبل “مَشْح” مريض يعاني سكرات الموت اسمه لبنان.
بين مرضى غوتيريش العديدين الذين يعالجهم زائرنا الكبير بوصفات الوساطات وأساليب حل النزاعات وكراتين الإعاشة، جمهوريات موز وعوز، مزقتها أحوال الطبيعة أو دمرتها الحروب، أو رمت بها الأقدار والظروف على قارعة المدنية. لكن لائحة مرضاه لم يسبق قطعاً أن ضمت عصابة وقحين يلبسون ياقات ويحتلون القصور وتعزف لهم موسيقى الإجلال، ويصرون على تمثيل الناس وتوريث الارتكابات والتحكم بمصير وطن وشعب يستحق الحياة.
حتى غوتيريش يتعلم. فهو سيحتار في تصنيف المنظومة بين أوليغارشية وكلبتوقراطية. وسيكتشف بالنهاية أنها خلطة لبنانية مافيوية فريدة يشكو فيها الحكام من قلة الصلاحيات، ويتطاول المرتكبون على القضاء، ولا تتوقف الطوائف المتسلطة على المجتمع عن حديث الهواجس والغبن، فيما أصحاب السلاح غير الشرعي يمعنون في إضعاف الدولة ويطالبونها بتأدية واجباتها. لكن غوتيريش سيرى النتائج ميدانياً: شعب أثبتت تقارير الأمم المتحدة واليونيسف أن معظمه تحت خط الفقر، وأطفاله عرضة لسوء التغذية وبئس المعاملة، ودولة مصادرة تمّ تشليعها وانتهاك سيادتها وتحتال على القرارات الدولية، ومنظومة متكافلة تدافع عن السارق المركزي للودائع لأنه أشركها في عملية الفساد وأذلَّ كبيرها وصغيرها.
غوتيريش ليس ساذجاً ليعتبر العشاء الرئاسي ولقاءه سائر الرؤساء براءة ذمة لهؤلاء من “دم الصدِّيق”. وبديهي ألا يكتفي بالتحذير، ذلك ان الجريمة واضحة وأبطالها معروفون، وواجب المجتمع الدولي تدفيعهم ثمن ما جنت أياديهم، لا مراعاة شعورهم ومراكزهم وحساسيات جماعاتهم وطوائفهم، خصوصاً أن المواطنين خسروا معركة التغيير في الشارع بعدما قمعت ثورتهم، وصارت آمالهم معلقة على مسار طويل لا يوقف التدهور ولا يحول دون هجرة الكفاءات ولا يضمن محاسبة الحاكمين والمجرمين.
كان مثالياً لو شاهد غوتيريش في بيروت تظاهرة مليونية تلاقيه بأعلام الأمم المتحدة وبمطلب مؤتمر دولي يضمن حياد لبنان. لكن يبدو ان الثورة نسيت الشارع، وصارت مكتفية بالتنظير لـ”النقاء الثوري” وبنزاعات ما قبل الانتخابات وعرض عضلات المجموعات، فيما القوى السياسية المعترضة على النهج التدميري تجري حسابات المقاعد على أمل أن تلاقي أكثرية نيابية جديدة تغييرات اقليمية مناسبة تتيح تغيير الأوضاع.
لا يحتاج غوتيريش الى جهد كبير ليتعرف الى واقع الحال ونقطة الانطلاق. تكفيه زيارة المرفأ ثم سؤال “اليونيفيل” عن تطبيق الـ1701 قبل أن يسأل عن انهيار الليرة والاقتصاد والمعابر المستباحة. هنا بيت القصيد ومكمن الداء. صحيح ان اللبنانيين صاروا فقراء ويحتاجون المساعدات، لكن الأصح هو انهم ينشدون أولاً العون الأممي للعيش في دولة عادية لها حدود مضبوطة وقوى أمنية شرعية لا شريك لها في العلن أو الخفاء وتحترم الديموقراطية والحريات. وعلى هذا الأساس يحتل دعم الجيش أولوية الأولويات، ففي ظل انهيار كل المؤسسات يبقى الرهان معقوداً عليه لضمان وحدة لبنان وأمنه، وإعطائه أملاً في خروج الدولة من غرفة الإنعاش.