ليس الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأول الذي يخصص لبنان بزيارة طويلة نسبياً من بين الأمناء العامين الآخرين الذين زاروه. الجامع المشترك بين زيارات هؤلاء جميعاً تزامنها مع مراحل صعبة كان يمر بها لبنان ولا يزال وكأنه في حالة احتضار لا تنتهي بل تتكرّر.
يأتي غوتيريش إلى لبنان هذه المرة ولبنان يقترب أكثر نحو نهاية مجهولة معالمها. صحيح أنه قال للبنانيين في رسالته أن الأمم المتحدة تقف إلى جانب شعب لبنان وستقدم إليه الدعم من أجل أن يتغلب على الأزمة وتعزيز السلام والإستقرار والتنمية وحقوق الإنسان ولكن هل هذا هو السقف المطلوب الوقوف عنده؟ هل المطلوب فقط تجاوز الأزمة أم الخروج منها نحو مرحلة لا تتكرّر فيها ويخرج معها لبنان من حالة الإحتضار؟ وكأن لبنان مريض دائم يحتاج في كل وقت إلى تدخل الأمم المتحدة ولكن يبدو في هذه المرة أن الحالة التي يعاني منها أصعب من أي وقت.
منذ العام 1948 بدأ تدخل الأمم المتحدة في لبنان. وربما من الضروري العودة إلى ذلك التدخل الذي أتى لرعاية اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل مع إرسال أول قوة دولية إلى لبنان من أجل مراقبة هذا الإتفاق. ولكن منذ ذلك التاريخ لم يظهر أن لدى المنظمة الدولية التي كان لبنان أحد مؤسسيها تمتلك حلولاً سحرية أو قادرة على فرض الحلول الممكنة.
لم يستطع كورت فالدهايم الذي تولى الأمانة العامة بين 1972 و1981 أن يمنع اندلاع الحرب في لبنان ولا أن يحتوي نتائجها أو أن يحدّ من عنفها. القرار الأهم الذي تم اتخاذه على أيامه كان القرار 425 بعد الإجتياح الإسرائيلي الأول للبنان في 14 آذار 1978، والذي نص على إرسال قوات اليونيفيل إلى جنوب لبنان. يومها كان لبنان في حرب ولكن كان في القصر الجمهوري رئيس اسمه الياس سركيس وفي الأمم المتحدة ممثل للبنان اسمه غسان تويني. بقي تنفيذ القرار 425 معلقاً حتى العام 2000. لم تستطع قوات الأمم المتحدة أن تفصل على الأرض بقيت إسرئيل تحتل جزءاً من لبنان وبقي السلاح الفلسطيني قادراً على شن الهجمات. كل ذلك لم يمنع من أن يحصل الإجتياح الإسرائيلي الثاني الكبير في حزيران 1982. لم يكن باستطاعة الأمم المتحدة أن تمنع الإنهيار الكبير ولا كان في استطاعة مجلس الأمن الدولي أن يتخذ أي قرار في ظل الإنقسام بين معسكر الغرب ومعسكر السوفييت ولذلك كان التدخل عبر القوات المتعددة الجنسيات وخصوصاً الأميركية والفرنسية.
لم يستطع خافيير بيريز دوكويلار أن يفعل شيئاً مهماً في كل ولايته التي امتدت من أول كانون الثاني 1982 حتى آخر كانون الأول 1991 بعدما كانت الحرب انتهت عملياً باتفاق الطائف.
بطرس غالي القبطي المصري الذي كانت ولايته بين 1992 و1996 لم يشكل علامة فارقة. حتى أنه لم يحظ بولاية ثانية كما غيره من الأمناء العامين. الفرق كان من نصيب كوفي أنان الذي استمرت ولايته من العام 1997 حتى العام 2006. ما ساعد أنان في مهمته هو انتفاء وجود الإتحاد السوفياتي وأنه أيضاً أتى في زمن رئيس الولايات المتحدة الأميركية القوي جورج بوش الإبن بعد اعتداءات 11 أيلول وبعد الإتفاق الأميركي الفرنسي على إخراج لبنان من تحت عهد الوصاية السورية.
ترك أنان لخلفائه إرثاً كبيراً في ما يتعلق بلبنان. إرث لم يتم وضعه موضع التنفيذ بعد. فهل سيكون غوتيريش مختلفاً عن بان كي مون الذي تولى الأمانة العامة من العام 2007 حتى العام 2016؟ عندما يكون هناك اتفاق في مجلس الأمن تكون الأمم المتحدة قوية. عندما تم الإتفاق على القرار 1559 كانت ثمة بداية طريق لخروج لبنان من زمن الوصاية السورية واستعادة سيادته. كان مجلس الأمن جازماً في الدعوة إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفي طلب سحب القوات السورية من لبنان ونزع سلاح الميليشيات، أي “حزب الله” والمنظمات الفلسطينية. وهي ثلاثة شروط كان يجب أن تتوفر ولا تزال لكي يستعيد لبنان دوره كدولة كاملة المواصفات. ولكن الطريق لم تكن معبّدة بالورود ولم تكن تلك مهمة أنان السهلة بل بداية لمسار لم ينته بعد ولا يعرف إذا كان غوتيريش يأتي لمتابعته.
عندما رفض النظام السوري و”حزب الله” تطبيق مفاعيل القرار 1559 بدأت مرحلة جديدة من الصراعات لكسر هذا القرار ومنع تطبيقه. اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان البداية لتلك المرحلة. أتى أنان إلى لبنان مدعوماً بقوة أميركا والعالم وكانت لديه القوة لكي يرسل أول بعثة تحقيق دولية لإخراج التحقيق في اغتيال الحريري من دائرة القضاء المحلي وسلطة أجهزة الأمن التابعة لعهد الوصاية. هذا المسار قاد لاحقاً إلى إنشاء لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان ولكن الأهم من ذلك كان القرار 1680 الذي ذهب أبعد من القرار 1559 لتأكيد سلطة الحكومة اللبنانية على أراضيها وترسيم الحدود بين لبنان وسوريا. بعد حرب تموز 2006 التي أراد “حزب الله” من خلالها التأكيد على رفض القرار 1559 والإحتفاظ بسلاحه كان القرار 1701 الذي أتى بغطاء دولي كامل زاد عديد القوات الدولية في الجنوب إلى ما فوق العشرة آلاف عسكري مع نحو عدد مماثل من الجيش اللبناني الأمر الذي لم يحصل منذ الإستقلال وتجاوز ما نص عليه اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل لناحية تمركز قوات رمزية من البلدين عند ناحيتي الحدود الأمر الذي يحتاج اليوم إلى إعادة تأكيده. كل تلك القرارات كانت على عهد أنان. من العام 2007 حتى العام 2016 اكتفى بان كي مون بقراءة التقارير الدورية التي تحكي عن تطبيق القرارين 1559 و1701 والتأكيد على الإلتزام بتطبيقهما. وعندما زار لبنان في آذار 2016 كان همه تفقد النازحين السوريين من دون الأخذ بالإعتبار الضغط الذي شكله هذا النزوح على الوضع اللبناني في ظل الحرب السورية التي كانت لا تزال متفجرة.
منذ تولى انطونيو غوتيريش الأمانة العامة للأمم المتحدة بدا وكأن لبنان دخل في مسار الإحتضار بعدما كانت النية من القرارات الدولية إعادته إلى الحياة. انتهت ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتشدد مع إيران و”حزب الله” والمنتقل من المراقبة إلى التأكيد أن امتلاك القوة لا يكفي بل يجب الإنتقال إلى مرحلة إثبات أن لا وازع من استخدامها وهذا ما حصل مثلاً مع اغتيال اللواء قاسم سليماني. ولكن مع انتقال الإدارة الأميركية إلى الرئيس جو بايدن خف وهج التهديد الأميركي وكان لبنان سقط في مرحلة ما بعد ثورة 17 تشرين وتمسك ما تبقى من السلطة المكونة من “حزب الله” والتيار الوطني الحر بشكل أساسي بالحكم الأمر الذي أدى إلى تدحرج كبير في الوضعية اللبنانية بحيث بات من الضروري للإنقاذ أن يتم تطبيق القرارات 1995 و1680 و1701 لا الإكتفاء ببعض المساعدات من أجل التغلب على الأزمة كما قال غوتيريش قبيل وصوله إلى لبنان. هذه تركة أنان التي يجب أن تطبق. وهذا ما ينتظره اللبنانيون.