الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس ليس زائراً عادياً في لبنان، هو ليس ناقلاً للمبادرات أو مسوّقاً لها على غرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولا يفرض عليه موقعه تفقّد عواصم الدول الفاشلة والمتعثّرة إقتصادياً وإعطاء التوجيهات لإخراجها من أزماتها، بعد أن زارتها أكثر من مؤسسة دولية وقامت بتشخيص مكامن الخلل التي تعتري قرارها السياسي والإقتصادي والأمني على حدّ سواء. القصور السيادي والوطني الذي تعانيه منظومة الحكم وافتقادها الأهليّة معروفة لدى القاصي والداني وليست بحاجة إلى إعادة تشخيص.
يتساءل اللبنانيون بصورة بديهية، هل يصدّق غوتيريس المواربات التي تساق أمامه وتكرارات السياسيين التي سئمها من قبله كل الموفدين الدوليين والدبلوماسيين الغربيين والعرب؟.
معزوفة احترام القرار 1701 تواجه بإعاقة عمل قوات اليونيفيل، وأولوية الإستقرار يهددها خطاب مذهبي ومربعات أمنية، وتمسّك بحقوق لبنان البحرية يقابله شلل في اتّخاذ قرار سيادي لا توافق عليه طهران، وكلام عن إصلاحات وانتخابات نيابية وتدقيق جنائي يكرّره الرؤساء أمام كلّ زائر قد أضحى عبارة عن عناوين للإلتفاف على قرارات الشرعية الدولية والسيادة الوطنية واحترام الدستور وحماية المصالح الوطنية. إنّ مقارنة بسيطة بين ما جاء في متن المبادرة الفرنسية عقب تفجير مرفأ بيروت وما تكرّر في لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وما يعيده الآن غوتيريس على مسامع الرؤساء من جهة، وبين المسار التعطيلي الذي رافق تشكيل الحكومات والإلتفاف على صندوق النقد الدولي والإصلاحات المطلوبة منذ استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وحتى الآن من جهة أخرى، يثبت أنّ هناك تصميماً دولياً على تجاهل الرضوخ لتوازنات الإقليم وانبثاق موقف لبناني صميم يتّسق مع المبادرات الدولية لإنقاذ لبنان، يقابله إصرارٌ لبنانيٌ على إبقاء لبنان وديعة لدى طهران وإقفال الباب على كلّ المساعي الدولية.
إنّ استعادة للمؤتمرات الصحفية التي عقدت في مقرّات الرئاسات الثلاث والتي لم يرد فيها أي تعرّض للمؤثرات الإقليمية المرتبطة بالشأن اللبناني أو للتوافق الداخلي بين المكوّنات السياسية والعيش المشترك فيما بينها، يوحي وكأنّ هذه المفردات قد سحبت من التداول أو انضمت إلى سواها في لغة خشبية تعداها الزمن. بدت كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون وكأنها موجّهة لوسيط دولي مكلّف بإيجاد تسويّة لنزاع الحدود بين لبنان وإسرائيل دون سائر الملفات، فيما إنحسرت كلمة الرئيس نبيه بري بتبرئة الذات من تعثّر المفاوضات في ملف حدود لبنان البحرية ولاقت كلمة الرئيس عون في التأكيد على ضرورة إجراء الإنتخابات. وفي السرايا حاول الرئيس ميقاتي من خلال كلمته الشاملة الإيحاء لضيْفه بأنّ هناك حكومة في لبنان بالرغم من تعثّر إلتئامها، فيما بدا الأمين العام وكأنه يخاطب اللبنانيين لا الحكومة، ويضع الخيارات أمامهم للتدليل على قصور السلطة، مؤكّداً إلتزام الأمم المتحدة مساعدة لبنان وثقتها بقدرات اللبنانيين الذين دعاهم للإقبال على الإنتخابات والتأسيس لمرحلة جديدة مع المجتمع الدولي بعد إعادة تكوين السلطة.
كيف سيقارب الأمين العام للأمم المتّحدة مسألة الإنفجارات التي كان مسرحها مخيّم البرج الشمالي الواقع في بقعة عمل قوات الأمم المتّحدة المؤقتة بما يُعتبر خرقاً فاضحاً للقرار 1701 الذي ينصّ على حصريّة السلاح في يدّ القوات المسلّحة الشرعية. من سيجيب على هذا التساؤل حيث لا يمكن تسويق السلاح الفلسطيني على أنه من مستلزمات الدفاع الذي يقوم به المواطنون الجنوبيون، وماذا ستكون تداعيات ذلك على التقرير الذي سيُرفع الى الجمعية العامة؟
هل يمكن القول أنّ ما جاء في كلمة السيد غوتيريس بأنّ «الحلول الدائمة لا يمكن أن تأتي إلا من الداخل، وأنّ تنفيذ الإصلاحات ضرورة لإعادة لبنان الى مساره الصحيح وأنّ الإنتخابات هي السبيل الوحيد الذي سيكفل للبنان مستقبلاً أفضل، وأنّ الامم المتحدة ستكون سنداً للبنان في كل خطوة من هذه المسيرة»، هي جملة من العناوين التي تتبناها الأمم المتّحدة، والتي ستؤدّي في حال عدم الإلتزام بها إلى مواقف وإجراءات دولية تطرح على مجلس الأمن الدولي لاتّخاذ القرارات اللازمة بشأنها؟ وهل هذا ما كرّره خلال اجتماعه بكلّ من الرؤساء الثلاثة، بصرف النظر عما سيتم تظهيره في الإعلام من كلمات مسطحة تساق من تلك المنابر؟ وهل تعبّر زيارة غوتيريس لموقع الجريمة في مرفأ بيروت عن موقف المجتمع الدولي في السيْر قدماً في التحقيق ودعم القضاء، ورفض ما يتمّ تسويقه حول تسويّة بين التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي تقوم على كف يدّ المحقق العدلي مقابل السماح بالتئام الحكومة؟
ad
هل تنجح زيارة الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس للبنان في إعادة الحياة إلى الوطن المحتضر؟ ربما يبدو السؤال سابقاً لأوانه ومتسرعاً بعض الشيء، ولكنّ توخي الإيجابية من زيارة ممثّل المجتمع الدولي يتوقف على استحقاقين: الأول هو في استتباع الزيارة بإجراءات جديّة وملزمة للمنظومة السياسية تترجم بصورة عملية، ما تعنيه عبارة «إنّ الامم المتحدة تقف إلى جانب الشعب اللبناني». والثاني هو في القدرة على رفع مستوى ثقة اللبنانيين بالمجتمع الدولي الذي لم يلامس برأيهم المسألة اللبنانية بالجديّة والموضوعية المطلوبتين، بل انغمس في متاهاتها وصفقاتها بالرغم من وضوح مكامن الخلل والوهن والتحلل والفساد التي تعتري الأداء السياسي والإقتصادي والوطني للمؤسسات اللبنانية كافة.
إنّ الإفتراق المنهجي بين المقاربة الدولية للمسألة اللبنانية والمقاربة التي يسوقها ويختبئ وراءها السياسيون يكمن في أنّ المجتمع الدولي لا زال يسائل لبنان كدولة مكتملة السيادة، في حين يصرّ حلفاء طهران من حكام لبنان ومعهم المتخاذلون الصامتون على توجيه رسالة الى المجتمع الدولي بأنّ الطريق الى بيروت تمرّ بطهران. فهل ينجح غوتيريس في نقل لبنان من صقيع طهران إلى دفء المجتمع الدولي؟