اضطرني الواجب الإنساني أن أتوجّه، أمس، إلى الشمال في مهمّة إستمرّت فقط بضع عشرة دقيقة، ثمّ قفلتُ عائداً إلى العاصمة. إلا أنّ تلك الدقائق المعدودة كانت كفيلةً بأن تكشف أمامي واقع الموت البطيء حيناً والمُتسارع حيناً آخر الذي يُعانيه لبنان جرّاء الظروف المتعدّدة والأزمات المُتناسلة أزماتٍ ومآزقَ وكوارث.
لو استطاع الطريق أن يتحدّث لقال الكثير. ولو أراد المواطن اللبناني أن يكشف عن خبايا صدره وما يعتريه من قلق، وما ينتابه من هواجس، وما يُقيم عليه من حزنٍ عميق… لقال وأكثرَ القولَ وكرّره.
على صعيد فيروس Covid-19 فإنه استوطن البيوت كلّها تقريباً، في مختلف أنحاء لبنان، إذ لا يوجد لبناني واحد لم يُصَب شخصياً، أو لم تُطاول هذه الكورونا اللعينة منطقته وبيئته وأقاربه وأنسباءه وذويه.
قبل كورونا كان اللبنانيون في كآبة غير مسبوقة بسبب ما طرأ على أوضاعهم الحياتية من تردّ وتراجع. لقد غابت البسمة عن الوجوه، وضاقت الصدور بفقدان الأمل قدر ما ضاق الكثير منها بفقدان القدرة على التنفّس بسبب الفيروس الخانق.
ولم يعد اللبناني قادراً على “شراء” الفرح والبهجة، كما في السابق، فالجيوب خالية خاوية، والمداخيل مُجمَّدة، والليرة تُهرول هبوطاً مروّعاً.
إنه زمن الرداءة والرِدّة.
زمنٌ لا أفق له.
كلّ شيء مسدود بالرغم من إشراقة الصيف الذي امتدّ إلى عقر دار الشتاء فأزاحه واحتلّ مكانه. حتّى ليصحّ فينا القول المأثور: إذا غضب الله على قومٍ جعل صيفهم شتاءً وشتاءهم صيفاً.
كان كلّ شيء مقفلاً على جانبَي الطريق. أمّا نفق شكّا الذي أغرقته العتمة الشديدة فلا يزال جانبه تحت وطأة الإنهيار الذي حصل قبل سنتين ولم تتمكّن وزارة الأشغال المهيوبة، وسائر المسؤولين عن أوضاعنا السيئة، من رفع الركام عن هذا الطريق الحيوي الذي لا يزال على حاله، من دون أن نعرف لماذا. وكانوا قد بشّرونا في حينه بأنه سيُرَمَّم ويُزال الركام عنه. علماً أنّ العمليّة كّلها لا تقتضي أكثر من بضعة أسابيع لو كان هناك جادّون يهتمّون بمصائر الناس الذين إذا لم تنكبهم كورونا، وإذا لم تصبهم شظايا إنهيار الليرة (وقد أصابتهم في الصميم)، ضربهم إهمال الدولة.
إنه زمن اليأس.
إنه زمن القرف.
إنّ اللبنانيين يائسون أكثر من أيام الحرب. يومها، كانوا يأملون بمستقبل مشرق ينبثق فجراً جديداً واعداً من ليل الحرب البهيم. ولكنهم لم يكونوا يُدركون بأنّ الحرب قد ترحل ولكنّ قادتها سيتولّون شؤونهم ليصلوا إلى حيث نرسفُ جميعاً.