بدأت معركة الرئاسة الأميركية فعلياً ولو داخل الساحات الحزبية تمهيداً لانتخاب المرشّح الرسمي عن كلّ من الحزبَين الديموقراطي والجمهوري خلال المؤتمر السنوي الذي سيُعقد هذه السنة. وفي المرحلة الحاليّة يتهافت المرشّحون لتأمين الدعم المالي لحَملاتهم، وهو العنصر الأساسي في نجاح معركة المرشّح.
وصحيحٌ أنّ جزءاً من هذه الأموال يأتي عن طريق متحمّسين حزبيين أو مجموعات مؤيّدة، إلّا أنّ الجزء الأساسي يأتي من قطاعات تملك مشاريع وبرامج مستقبلية تتقاطع مع مصالحها وتجعل منها قوّة مؤثّرة في رسم سياسة البيت الأبيض في حال فوز مرشّحها.
وإذا كانت أبرز أسماء مرشّحي الحزب الديموقراطي تبقى هيلاري كلينتون، فيما نائب الرئيس جو بايدن ما يزال متردّداً حيال تقديم ترشيحه، فإنّ الحزب الجمهوري يشهد «طفرة» بين مرشّحيه والذين يبقى أبرزهم جيب بوش ابن الرئيس السابق جورج بوش وشقيق الرئيس السابق جورج دبليو والحاكم السابق لولاية فلوريدا.
وينافسه العديد من الأسماء، أبرزُها ميت رومني الذي خسر أمام باراك أوباما والسيناتور عن حزب الشاي تيد كروز.
لكنّ الأهمّ أنّ بوش يحظى بتأييد شركات النفط والسلاح التي تتولّى الدعم المالي لحملته. صحيحٌ أنّه يعمل على تقديم نفسه بشكل معتدل، لكنّ دعم قطاع السلاح له لا بدّ أن يحملَ تفاهمات جانبية.
وفيما تبقى أفكار ميت رومني المتشدّدة معروفة، فإنّ تيد كروز الذي نجحَ حتى الآن في تأمين عشرات ملايين الدولارات يفوقه تشدّداً، ويكفي أنّه يمثّل حزب الشاي أو ما يُعرف بيمين الحزب لجمهوري. حتى هيلاري كيلنتون نفسها والتي آثرَت الاستقالة من موقع وزيرة الخارجية خلال الولاية الأولى لأوباما، فإنّها اختارت لنفسها نهجاً سياسياً مختلفاً عن أوباما ومتقدّماً عنه ولو أنّه لا يصل الى حدود التشدّد الكامل.
وفي إسرائيل انتخابات قريبة لكنّ لا يبدو أنّها ستُحدِث تغييراً جوهرياً في الخيارات السياسية. قد تؤدّي هذه الانتخابات الى تبديل في أحجام القوى السياسية، لكنّها لن تؤثّر في السياسة العامة للحكومة المقبلة، ذلك أنّ استمرار حصول الانتخابات وفق النظام النسبي سيؤدّي إلى ولادة حكومة ائتلافية من قوى نيابية متعدّدة وهو ما يعني عجزَها عن اتّخاذ قرار بالتسوية السلمية مع الفلسطينيين بسبب واقع المزايدات، خصوصاً لدى الكتَل الصغيرة والتي تمنح الحكومة الأكثرية المطلوبة، وهو ما يعني استمرار السياسة الإسرائيلية وفق المسار الحالي.
ماذا يعني كلّ ذلك؟
إستمرار التشدّد الإسرائيلي وسقوط مشرورع التسوية الإسرائيلية – الفلسطينية الى أمد غير منظور، فيما تلوح بوادر التغيير في واشنطن مع خروج اوباما من البيت الابيض بعد أقلّ من سنتين.
تغييرٌ تأملُ شركات ومصانع الأسلحة أن يفتح لها فرَصَ الاستثمار وأبواب العمل. والمقصود هنا توسيع هامش النزاعات والحروب، وهو ما يوفّره بامتياز وجود «داعش» والتنظيمات المتطرّفة.
وفق هذه الصورة القاتمة خفّفَت الأطراف على ساحة الشرق الأوسط من هامش مناوراتها وانطلقَت لبناء سياسة واقعية وتثبيتها في ما تبقّى من مرحلة أوباما الرئاسية. ومن هنا حتمية إقرار الاتفاق النوَوي بين واشنطن وطهران، خصوصاً بملحقاته السرّية.
وفيما يكثر الهمس عن مشروع جديد للساحة الفلسطينية يقضي باستبدال محمود عبّاس الحامل مشروع التسوية بمحمد دحلان القادر على مواجهة حركة حماس والتوازن معها واستمالة أجزاء من شارعها، وتحصين الأردن اقتصادياً وأمنياً، تستمرّ حركة التواصل في الكواليس الضيّقة بين مختلف القوى في الشرق الاوسط على وقع استمرار هبوط أسعار النفط. فطهران التي تعاني اقتصادياً تتواصل بعيداً عن الضجيج الإعلامي مع الرياض التي تتلقّى إنذارات داعش الإرهابية ان على الحدود أو حتى في الداخل.
هذا التواصل يحصل برعاية مباشرة من حاكم سلطَنة عمان، وهو يطال ملفّات المنطقة الشائكة. السعودية بحاجة لتعاون الحكومة العراقية لضبط الحدود، وإيران بحاجة لتخفيف الأعباء الاقتصادية عنها. حوار يمكن رصدُ نبضِه من لبنان من خلال حوار «المستقبل» و»حزب الله».
وفي الملف السوري تستمرّ المبادرة الروسية لرسم تسويةٍ سياسية ولو مؤقّتة والتي تحصل بموافقة أميركية. وهي في الحقيقة مبادرة تعطي دوراً سياسياً لموسكو خارج حدودها للمرّة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو انتصار لها، ولكن بمثابة المتنفّس بعد خسارتها في أوكرانيا ومعاناتها «النفطية»، ما أدّى إلى إلغاء خطّتها بتحديث مختلف قطاعاتها العسكرية والتي كانت تحتاج لموازنة هائلة.
ووسط كلّ ذلك لبنان ينتظر أبوابَ الفرج الرئاسي. صورة تبدو معقّدة ولكنّها قابلة للحلّ عند أيّ لحظة.
إستحقاق رئاسي قد يشهد دوراً لموسكو للمرّة الأولى، ربّما هو ما يمكن استنتاجه من كلام نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان. لقد تحدّثَ في بعض لقاءاته مطوّلاً عن الاستحقاق الرئاسي بتفاصيله الكاملة.
لكنّ المرحلة الحالية هي للديبلوماسية الفرنسية التي ستحاول تدوير الكثير من الزوايا في ظلّ قرار أميركي بعدم الحديث عن لبنان كي لا يدخل بنداً في الصفقة الكبرى ويدفع إيران لطلب أثمان إضافية.
لكن حالما تنجح باريس في تسجيل ليونةٍ ما، وتحقّق المفاوضات الايرانية – السعودية برعاية سلطنة عمان تقدّماً مطلوباً، فإنّ واشنطن قد تتحرّك سريعاً لإنجاز الاستحقاق اللبناني، وهو ما قد يحصل بعد أسابيع عدّة وربما بعد أكثر من شهرين، لكنّه بالتأكيد ليس مطروحاً الآن.
رغم ذلك تبدو الأوساط الديبلوماسية الأميركية المتابعة للأوضاع اللبنانية تميل لحصول هذا الاستحقاق في لحظةٍ ما قبل الصيف المقبل وبمساعدة موسكو، وهي تضع إشارةً حول إسمين من ضمن اللائحة المعروفة، رغم تأكيدها المستمر بأنّها لن تنزلقَ في لعبة التسميات، بل ستترك ذلك من مسؤولية الأطراف في لبنان.