إذا كنت من اللبنانيين الذين يتوجّهون صباح كلّ يوم الى بيروت لا بدّ أنّك علقت في سيارتك في زحمة السير الخانقة التي يُعاني منها كلّ مَن يضطره عمله للتوجّه الى العاصمة او الى ضواحيها…
وفي سجنك هذا، المفروض عليك لجرم لم ترتكبه، أنظُر حواليك الى العالقين معك في الزحمة التي لا حلّ لها أقلّه في المدى المنظور، وحينما تجِد شخصاً يتحدث مع نفسه بصوتٍ عالٍ تأكّد أنه ليس مجنوناً وإنما يعاني من مرض التحضير لدخول أولاده إلى المدارس، مع ما يحمل هذا الحدث المفترَض أن يكون عيداً بالنسبة إليه، من أعباء مالية وصعاب اقتصادية جمّة تُلقى على كاهل كلّ مَن لديه أولاد مع بداية كلّ عام دراسي.
هذا المتحدث مع نفسه كما كثيرين غيره من اللبنانيين، لم تبقَ في ذاكرتهم عن شهرَي أيلول وتشرين الأول إلّا مأسي وصعاب تسجيل أولادهم في المدارس ودفع المستحقات المالية من القسط الأوّل الى ثمن القرطاسية والكتب والمحفظة والزيّ المدرسي، وقد زاد هذا العبء في السنوات الماضية بسبب الضائقة المالية التي يعانون منها، وجشع معظم المدارس الخاصة وغياب التعليم الرسمي الجدي، فلم تعد تكفيهم أجورُهم ومدّخراتهم لكي يؤمّنوا لأولادهم حياة طبيعية كانوا قد حلموا بها… فيتحوّل هذا الشهر شهراً كئيباً حزيناً ومقلقاً، يخرجهم عن طورهم الطبيعي ويحوّلهم أناساً ضائعين بين إمكاناتهم المالية المتواضعة وطموحهم بل حقهم بأن يؤمّنوا لأولادهم تعليماً لائقاً يؤمّن لهم مستقبلاً هانئاً وناجحاً.
وتكبر المصيبة حينما تعلم بأنّ عدد التلاميذ المسجّل في المدارس الرسمية ينخفض سنوياً بدل أن يرتفع مع هذه الأزمة، وذلك كون الحكومات اللبنانية المتعاقبة تركت أمور التعليم الرسمي وأهملته عن قصد… فلم تستطع المدرسة الوطنية بالتالي أن تُجاري العصر أو أن تلحق بركاب معظم المدارس الخاصة، سواءٌ بالنسبة الى المستوى التعليمي، أو في ما يتعلّق بالتجهيزات التي تحتاجها المدارس لتقوم برسالتها التعليمية في زمن التكنولوجيا والوسائل المتطوّرة.
ومَن يظنّ أنّ التعليم الرسمي لم يكن من أولويات الحكومات عن غير قصد فهو واهم، ولا يدرك كيف يفكّر مَن تولّوا السلطة في وطننا العزيز، فالتعليم شأنه شأن الكثير من الخدمات المفروضة على الدولة أن تؤمّنها لمواطنيها، بقيَ على هامش اهتمامات الأخيرة لأسباب مقصودة وعديدة، ولعلّ أهمّها غياب فكرة الدولة الراعية عن ذهن الكثير من السياسيين والمهتمّين بالأمور التربوية، من دون أن ننسى القوة التي تتمتّع بها المدارس الخاصة إذ إنها تتماهى مع أصحاب القرار ومن الصعب تخطّيها في أيّ عملية إصلاحية، وهي تؤمّن لكلّ مسؤول شبكة علاقات معقّدة ومذهبية. بالإضافة الى محاولة إبقاء العلاقة الزبائنية قائمة بين المواطنين والسياسيين، فكلّ مواطن محتاج لا بدّ له أن يطرق بابَ أيّ مسؤول ليؤمّن له إمّا واسطة ليُسجّل ابنه في مدرسة خاصة، أو دعماً مالياً عند تعثّره…
وفي هذا نقيض واضح لفكرة الدولة، ففي البلدان التي تقوم فيها السلطة على أساس علاقة طبيعية بين المواطنين والمسؤولين، الأساس هو للمدرسة الوطنية بحيث إنّ المدارس الخاصة تساعد على استيعاب أعداد الطلاب الفائضين… إضافة إلى كلّ ذلك فإنّ الكثير من المسؤولين استعملوا المدارس الرسمية خصوصاً الأساتذة والمديرين كأصواتٍ انتخابية، فهذه الأخيرة يعمل فيها نحو أربعين ألف أستاذ، يشكلون مع عائلتهم رقماً انتخابياً من الصعب تخطّيه مع ما يعني ذلك من تغييب للرقابة والمحاسبة الجدّية.
أمام هذا الواقع الأسود، ليس غريباً أن تجد مَن يتكلّم مع نفسه بصوتٍ عالٍ، وإنما الغريب أن نبقى ساكتين ولا نثور على واقع لن يتبدّل إلّا بإرادتنا وبسواعدنا.