بالمعنى المجازي للعبارة، هناك مَن «يخشى» أن يكون انتخاب العماد ميشال عون قد «صُنع في لبنان» فعلاً، أي أن يكون هناك قوى لبنانية محلّية تحدّت القوى الإقليمية والدولية المتحكّمة باللعبة في لبنان، وعمدت إلى فرض انتخاب عون عليها. ففي العادة، يُصنَع السياسيون والحكام في لبنان تحت مظلّة خارجية معروفة، ويتمتّعون بدعمها وحمايتها. وفي التجارب النادرة الناشزة، كان يقع ما ليس في الحسبان أو ما لا تُحمَد عقباه.
إذا كان صائباً تقدير الدكتور سمير جعجع عن أنّ إيران بقيت حتى اللحظة الأخيرة رافضة وجود رئيس في لبنان، وأنّ «حزب الله» «انحشر» في النهاية وذهب إلى انتخاب عون رئيساً للجمهورية، لئلّا يخسر الحليف المسيحي، فإنّ لهذا الأمر مدلولاته القوية وتردّداته على كامل العهد العوني.
تدعم هذه المخاوف أجواء بدأت تخرج من «حزب الله» توحي بأنه ليس ملتزماً بالرئيس سعد الحريري في رئاسة الحكومة، وأنه تعاطى مع الأمر بليونة، تسهيلاً للتسوية التي احتاج إليها الحليف الماروني لبلوغ بعبدا.
وقد بدأت أوساطه تطلق الإشارات إلى أنه لن يسمّي الحريري في الاستشارات النيابية الملزمة. وقد يكون ذلك من باب رفع السقف السياسي لتحصيل أفضل الشروط في الحكومة الحريرية الأولى، لكنه أيضاً قد يعني وضع العصي في دواليب التكليف أو التأليف أو كليهما.
ومن المؤكد أنّ «الحزب»، بعدما سدّد دَيْنه للعماد عون، سينصرف إلى مراعاة الحليف الأكبر داخل البيت الشيعي، أي الرئيس نبيه برّي، ولن يُقْدِم على أيّ خطوة تزعجه. وهو أعلن ذلك بوضوح في الخطاب الذي أعلن فيه النزول إلى المجلس وانتخاب عون.
وواضح أنّ برّي يتّجه إلى «الجهاد الأكبر» في العهد الجديد. وليس منطقياً أن يتخلّى عنه «الحزب» في هذه المهمة، أيّاً تكن الظروف والأسباب، بدءاً باستحقاق تكليف الحريري رئاسة الحكومة وصولاً إلى التأليف والبيان الوزاري ونهج الحكم. ولن يدخل «الحزب» الحكومة العتيدة ما لم تكن فيها حركة «أمل»، والعكس صحيح.
وثمّة مَن يلاحظ أنّ علاقة الثنائي الشيعي بركنَيْ العهد الجديد، عون والحريري، تتحكّم بها معادلة معكوسة. فهناك كيمياء بين برّي والحريري، ولكن ليس برّي وعون. وهناك كيمياء بين «حزب الله» وعون، ولكن ليس بين «الحزب» والحريري. وهذا التعاكس سيترك بصماته على العهد وحكومته، وقد يكون أساسياً في أزماته، لأنّ من الصعب إيجاد الصيغة المناسبة والوسيط القادر على تمرير الكيمياء بين الجميع.
في الأيام المقبلة، سيكون عهد عون، ومعه الحريري، أمام استحقاق حاسم: التسهيل أو العرقلة، ومعه ستتّضح معالم الجواب على السؤال الآتي:
ما هي الخفايا التي من خلالها تمّت «الميني صفقة» أو «الميني تسوية» القاضية بوصول عون إلى بعبدا و»عدم الممانعة» لعودة الحريري إلى السراي.
في عبارة أوضح، يجب أن تحسم الأسابيع والأشهر المقبلة أيّ سيناريو هو الذي تمّت فيه معادلة انتخاب عون و»فَتْح الباب» جزئياً للحريري؟
1- هل هو السيناريو الذي يتحدث عنه جعجع، سيناريو الرئيس الذي صُنِع في لبنان بتأكيد «200%»؟ أي هل جاء عون بمجرّد مبادرة لبنانية داخلية قوامها دعم خصميه الأساسيَّين، الماروني جعجع والسنّي الحريري، وقد جرى فرضها على الجميع في الداخل والخارج، فأحرجت الإيرانيين الرافضين لملء الفراغ حالياً وحلفاءهم في الداخل الذين ربما كانوا يفضلون شخصية أخرى في بعبدا؟
2- هل هو سيناريو الرضوخ لمقتضيات صفقة إقليمية ودولية اعتاد اللبنانيون على مثيلاتها لإقرار التسويات، أي مباركة السعودية وقبول إيران للوساطات الفرنسية والأوروبية ودعم الولايات المتحدة؟ وهذا السيناريو توحي به أوساط «المستقبل».
3- هل هو السيناريو القائل إنّ إيران هي صاحبة المبادرة الحقيقية في كلّ ما جرى. فهي، من خلف الستارة، أوصلت حليفها الماروني إلى السلطة، بذكاء كبير، أي بدفع الخصوم إلى تبنّي ترشيحه. وهكذا ستفاوضهم على الشاردة والواردة وتطلب منهم دفع الأثمان مقابل موافقتها على مطالبهم. وهذا السيناريو يتبنّاه رافضو التسوية من داخل فريق «14 آذار».
يجدر الانتظار لتبيان ملامح أيّ من السيناريوهات هو الواقعي. لكنّ هناك نقاطاً تجمع بينها، ويمكن أن يكون السيناريو الذي جاء بعون إلى بعبدا، وسيأتي بالحريري إلى السراي وفق ما هو مُفترَض، مزيجاً من الفرضيات الثلاث.
فالبعض يعتقد أنّ نظرية «صُنِع في لبنان» صحيحة جزئياً، أي لجهة أنّ جعجع والحريري جعلا من انتخاب عون أمراً واقعياً جرى فرضه. ولكن لا تجوز المبالغة في الاعتقاد أنّ قوى «14 آذار» استطاعت في لحظة أن تفرض خياراتها على الأقوياء في المحور الإقليمي الخصم. فهؤلاء ربما يناسبهم الطرح، ولكنهم كانوا ينتظرون توقيتاً أفضل لتسويقه.
وثمّة مَن يتوقف عند عامل دولي ربما ساهم في ولادة «الميني تسوية»، وهو قرب انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة. فالقوى الإقليمية تتوقع أن يترك هذا الحدث أثراً مباشراً على مجريات الصراع الدائر في سوريا والعراق واليمن وسائر الشرق الأوسط، ولبنان جزء منه.
في الفترة التي تحرَّك فيها الملف الرئاسي اللبناني، قبل أسابيع، كانت كلّ الاستطلاعات في الولايات المتحدة تفيد بتقدم ملموس للمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. ويفترض البعض أنّ إيران مستفيدة من إيصال رئيس محسوب على حلفائها قبل انتخاب كلينتون، لأنها إذا فازت بالرئاسة فستنتهج خطاً أكثر تشدداً مع «حزب الله»، ولن تكون مرنة في قبول حليفه في بعبدا.
واللافت أنّ واشنطن، في ظلّ إدارة باراك أوباما الديموقراطية، لم تُبدِ ارتياحاً كاملاً إزاء انتخاب عون. وبعد الانتقاد الذي وجّهه وزير الخارجية جون كيري، قبل أيام، لاحتمال انتخاب عون، أبدت واشنطن موقفاً جديداً بعد الانتخاب، يُبدي حذراً إزاءه، وينتقد الدعم الذي يتلقّاه عون من «حزب الله». وقالت إنها ستراقب القرارات والإجراءات التي سيتّخذها عون على مستوى تشكيل الحكومة والنهج الذي ستتبعه لتحديد الموقف.
وفي شكل معاكس للموقف الإيراني، من مصلحة السعودية أن تسرِّع انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، استباقاً لاحتمال فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب المعروف بتشدّده إزاءها. واقتنعت السعودية بخيار عون بعد الضمانات التي قدّمها حليفها الحريري بأن يعتمد العهد الجديد سياسة متوازنة بين المحاور الإقليمية.
واللافت، في الأيام الأخيرة، أنّ الهوّة تقلَّصت في استطلاعات الرأي بين كلينتون وترامب لمصلحة الأخير، في ضوء الأزمة المثارة حول استخدامها بريدها الإلكتروني الشخصي في مهمات رسمية خلال تولّيها مهامها في وزارة الخارجية.
لذلك، لا يريد كثيرون أن يصدِقوا أنّ «تحالف» الرئيس عون والدكتور سمير جعجع والرئيس سعد الحريري هو الذي فرض انتخاب عون رئيساً للجمهورية على الجميع. فالغالب هو أنّ قوى «14 آذار»، أو أيّ فريق داخلي آخر، أضعف من أن تمرِّر تسويات من النوع إذا كانت ترفضه قوى فاعلة كإيران والولايات المتحدة.
وقد يكون من حظ العهد والقوى التي صاغت «الميني تسوية» أن تحظى بغطاء إقليمي ودولي، ولو نسبياً، لتكون ضمانة لها في بلد المصالح الخارجية المتقاطعة.