لبنان في المرتبة 171 أم 67!
تعمّم كل سنة (تقريباً) ملخصات عن تقارير دولية يحدد فيها الأداء البيئي لكل دولة. وقد راج ملخص تعميم هذه السنة الذي يبين أن لبنان يأتي في أسفل سلم الأداء البيئي (المرتبة 171) مباشرة بعد غانا (177) وأفغانستان (187)! وإذا أضفنا إليه تقرير مؤشر الأداء البيئي لسنة 2018 والذي صدر عن منتدى دافوس الاقتصادي، الذي يضم مجموعة ضخمة من (الشركات العالمية الملوثة)، نعرف الاتجاهات والخلفيات لهذه التقارير، ومدى مصداقيتها. فهل هي تقارير من أجل التحذير أم تقارير من أجل الاستثمار في مشاكل الدول التي تسببت هي نفسها بالقسم الأكبر من مشاكلها؟!
من المهم جداً، قبل البدء بتقييم هذه التقارير، أن نعرف الجهة التي تُصدرها، هويتها وأهدافها وإمكانياتها. فهذه الأنواع من التقارير، المصنفة “دولية”، كانت عادة منظمات وبرامج الأمم المتحدة هي التي تهتم بإصدارها. وكانت هذه الأخيرة، في العادة وفي الغالب من الحالات، تتكل على التقارير والمعطيات والأرقام التي تقدمها الحكومات والوزارات المعنية فيها، أو على آراء خبراء (أو شركات صغيرة) يعملون في فلك وزارات الدول… ما كان يساهم في طرح العديد من علامات الاستفهام بالطبع حول مصداقيتها.
فمعظم التقارير الحكومية، لا سيما تلك البيئية منها، تتقصّد إخفاء الأرقام الحقيقية، لأسباب مختلفة، في طليعتها عدم إظهار عجز أو فشل الوزراء في سياساتهم وقراراتهم. أو أنها لا تستوفي معايير البحث والتدقيق والنشر… بالإضافة إلى أنها لا تفتحها للنقاش مع أحد، لا سيما النقاد، قبل النشر، مما يضعف من قيمتها ومصداقيتها أيضاً.
تقارير تهويلية
قد ينجم ضعف التقارير الحكومية أيضاً من ضعف التمويل، أو تحوير في نتائجها لتخدم طلبات التمويل من جهات وبرامج وأجندات مانحين… ما يؤثر أيضاً في المصداقية. من هنا بات معظم المراقبين والمهتمين والمستثمرين يتطلعون الى مصادر أخرى للمعلومات، غير تلك التقارير (الأممية)، أي إلى تقارير تصدر عن مؤسسات دولية كبرى كالبنك الدولي، أو كتلك التي صدرت مؤخراً عن منتدى دافوس الاقتصادي، والذي ادّعى أن لبنان أصبح في المرتبة 67 عام 2018، بعد أن كان في المرتبة 94 عام 2016!
إلا أن هذه التقارير، لا تتمتع بالمصداقية أيضاً. هدفها الحقيقي ليس الكشف عن أوضاع الدول البيئية والتنموية، بل الترويج لبضاعتها، عبر وضع تقارير وأرقام كمقدمات ضرورية لطلب الاستثمار، إن لشركات استشارية أو لشركات استثمارية أو للاثنين معاً.
تضرب وتعالج!
بمجرد أن نعرف هوية المؤسسات التي وضعت تلك التقارير، نعرف بعضاً من أهدافها الرئيسية. فمنتدى دافوس الدولي المعروف والشهير، هو منتدى لكبريات الشركات العالمية المتعددة الجنسيات في الأساس (أكثر من ألف شركة)، التي تعد تقاريرها “التهويلية” للدلالة إلى مكامن الضعف في الدول، كمقدمة للاستثمار في معالجتها.
زاد استهلاك الوقود
في قطاعي الطاقة والنقل… فكيف انخفض التلوث؟
هي تعتمد وتستعين في تقاريرها (بالطبع) بأساليب البحث العلمي التي تقوم على بيانات وعلى مؤشرات وتحدّد قضايا مثل صحة البيئة ونوعية الهواء والماء ومياه الصرف… وصحة النظم البيئية على أنواعها، وتستعين بمؤشرات أساسية وأخرى فرعية… من أجل تحديد مراتب الدول. ثم تستفيد من النتائج لتقترح على الدول الاستعانة بتقنيات الشركات المساهمة في المنتدى للمعالجة، بعد أن تكون سلعها، التي طالما روجت لها، هي التي تسبّبت بالتلوث وهددت الصحة والبيئة والنظم الأيكولوجية للدول!
زيادة في إنتاج الطاقة
السؤال الذي يطرح حول أحد أهم القضايا التي تناولها تقرير دافوس كتلوث الهواء، بناء على ماذا استندت هذه التقارير لتصنّف لبنان (على سبيل المثال)؟ مع العلم أن ليس في لبنان أجهزة قياس لتلوث الهواء، لا ثابتة ولا متنقلة، والدولة اللبنانية لا تصدر نتائج دورية حول وضع الهواء الخارجي كما في الكثير من دول العالم (ومدنها على الخصوص). فإذا كانت الدراسات والتقارير، قد اعتمدت على التقارير الرسمية الوطنية، فإن آخر تقرير شبه شامل صدر عن وزارة البيئة كان عام 2010 تحت عنوان “البيئة في لبنان: الواقع والاتجاهات” ولم يحدّث!
إما إذا كان قياس معدل تلوث الهواء مبنياً على بيانات تتعلق بقطاعي الطاقة والنقل الأكثر تسبّباً بتلوث الهواء، وعلى بيانات حول حجم استهلاك الوقود وعدد السيارات ووضع الآليات، لتحديد نوعية الهواء… فإن طرق إنتاج الطاقة في لبنان لم تتغير معطياتها في السنوات الأخيرة، فلا نزال نستهلك نفس حجم ونوع الوقود الأحفوري إن عبر المحطات أو عبر البواخر في البحر أو من المولدات الخاصة التي لم يتغيّر عددها أو عبر وسائل التدفئة التقليدية، التي يمكن توقع زيادة الاستهلاك فيها (وليس انخفاضها) بسبب تدنّي أسعار النفط والمشتقات النفطية… ما يعني أيضاً أن نسب التلوث من قطاع إنتاج الطاقة يفترض أن يكون قد ارتفع بدل أن يكون قد انخفض، كما يزعم التقرير!
زيادة في عدد السيارات
لناحية قطاع النقل فكل البيانات الصادرة مؤخراً تؤكد أن عدد السيارات على سبيل المثال قد ارتفع أيضاً ولم ينخفض، حتى نستنتج أن معدلات تلوث الهواء تراجعت!
فعدد السيارات المسجلة (وتلك غير المسجلة) قد ارتفع من ما يقارب 900 ألف سيارة عام 2008 إلى ما يقارب مليوني سيارة عام 2018… ما يعني زيادة حتمية في نسب تلوث الهواء. وإذا كانت الحجة أن عدد السيارات الجديدة قد زاد، ما يعني انخفاضاً في تلوث الهواء، لأن السيارات الجديدة أقل تلويثاً، نفهم عندها ما الهدف من هذه التقارير. صحيح أن السيارات الجديدة الصنع أقل تلويثاً، لا سيما إذا كانت أقل وزناً وأقل سماكة وأقل سعراً وأقل حجماً… إلا أن هذه المعطيات نفسها قد شجعت على زيادة هائلة في بيع السيارات الجديدة الصغيرة الحجم وقليلة السعر، ما ساهم في زيادة زحمة السير وزيادة الانبعاثات حتماً، مع العلم أن السيارة الواقفة في الزحمة تلوث أكثر من 6 مرات فيما لو كانت تسير بسرعة معتدلة. وهكذا يمكن تفسير تزامن صدور تقرير عن تلوث الهواء وانخفاضه، مع بيانات عن زيادة في مبيعات السيارات الجديدة، الصغيرة والرخيصة نسبياً، على سبيل المثال. ما يعني أن الهدف من هذه التقارير على سبيل المثال الترويج للسيارات الصغيرة، وهو نفسه النهج التاريخي الذي جعل الدول النامية تصرف القسم الأكبر من موازناتها على تطوير البنية التحتية (من جسور وأنفاق وأتوسترادات) لكي تستطيع أن تتسع للسيارات التي تستوردها كل عام!
تقرير الترويج للاستثمار
يتحدث معدو التقارير أيضاً عن عدم كفاية المياه وسلامتها، من دون أن يكون للدول أجهزة قياس كافية للمتساقطات (لا سيما الثلوج) ولا أجهزة رصد لتدفق المياه السطحية… ويزرعون الشك حول فشل الدول والإدارات الرسمية المعنية في إيصال المياه سليمة إلى الناس… كل ذلك تمهيداً لخصخصتها، مع الترويج أن المياه الآمنة هي المياه المعبأة، وأن لا ثقة إلا بشركات عالمية كـ”نستله” على سبيل المثال، هي نفسها التي تدخل من ضمن كبريات الشركات (في منتدى دافوس) التي تمول تلك التقارير.
فأيّ معنى يبقى لهذه التقارير “الدولية”، خارج الإطار الترويجي المشار إليه، مع العلم أن وضعنا البيئي والصحي أسوأ بكثير مما يرد في التقارير، بسبب سياسات تلك الشركات أولاً، وخضوع من في السلطة لسلطانها ثانياً، أثناء وضع السياسات والتشريعات الوطنية واختيار الحكام وممثلي البرلمان.