بدأت أعمال طاولة الحوار لليوم الأوّل في الثلاثيّة الممدودة أمام الناس عسى بالإمكان إحداث خروقات واضحة. اجتمع القوم في الداخل وخرجوا مثلما دخلوا، النقاش تمحور حول ما إذا كان الحلّ يبدأ من القاعدة أو أنّه يبدأ من فوق، والقصد حتمًا هو إما البدء بقانون انتخابات أو انتخاب رئيس للجمهوريّة. وحده جبران باسيل خرج وقال إمّا قانون انتخاب عادل بين الجميع أو ليس من شيء، والبقية قالوا وكرروا ما يقال عادة، من دون تبيان الحقائق، في المحصّلة كان يومًا عاديًّا لم ينتج شيئًا.
يتضح من خلال متابعة عدد من الأوساط لسياق الجلسة، أنّها تشبه إلى حدّ كبير نظريّة الفنّ للفنّ، فالأقطاب لم يتمثّلوا بمجملهم، والرئيس سعد الحريري كلّف الرئيس فؤاد السنيورة لتمثيله على الطاولة، وما من أحد فهم مضمون التناقض قي التمثيل بين شخصيّة تبدي مرونة تجاه الآخرين على الرغم من الخلافات الجوهريّة كما وصّف كثيرون، وأخرى متشدّدة رافضة للحوارات الثنائيّة سواء بين التيار الوطنيّ الحرّ وتيار المستقبل وبين تيار المستقبل وحزب الله، ويعارض انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة ويرفض أي قانون انتخابيّ يؤمّن المناصفة بدءًا من مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وقد اعتبره في تصريح بأنّه يحفر بإسمنت النظام السياسيّ اللبنانيّ. كيف يكون ثمّة خلاف بين الحريري والسنيورة والأخير يمثّله حول الطاولة؟
لقد بدت الجلسة الأولى رتيبة للغاية. في الحقيقة لا يتوقّع الحسم في أول يوم من الحوار، لكن يبدو أنّ أحدًا غير عازم على التقدّم في الخطوات نحو الخطوط الجامعة، وقد تمّ التحذير غير مرّة من خطورة ما يحاك للبنان سواء عبر اللاجئين السوريين أو الفلسطينيين في المخيمات من جرود عرسال إلى عين الحلوة، والقراءة مائلة إلى أنّ الوقت مقبول للانكباب على لبننة الحل السياسيّ بالأطر والأسس الضروريّة محافظة على الحدّ الأدنى من الكرامة الوطنيّة، وعلى شيء من التوازن الذاتي الجماعيّ المطلوب في الظروف الدقيقة. ما يضير ويضيم في الوقت عينه أنّ المتحاورين ما عدا قلّة منهم، لا تملك القراءة الموضوعيّة التحليليّة لما يحصل في المنطقة وانعكاس كلّ ذلك في الداخل اللبنانيّ، معظمهم دخل طاولة الحوار من دون أن يلاحظ أو يلحظ معنى ما حصل في تركيا وانعكاس ذلك على سياق المعركة في حلب، وما من أحد لاحظ بأنّ حسم تلك المعركة سيؤول إلى مجموعة تغييرات جذريّة في بنية المنطقة من سوريا شمالاً إلى العراق وغربًا نحو لبنان، ما من أحد من المتحاورين لاحظ بأنّ الخطّة تقتضي بعد الذي حصل في تركيا ربط الحدود التركيّة – السوريّة بالحدود العراقيّة السوريّة وصولاً نحو الحدود اللبنانيّة – السوريّة والأردنيّة- السوريّة. ليس السياق الجغرافيّ في عملية الربط هو الأساس بل المضمون والمعنى هو الأساس في ظلّ إقرار الولايات الأميركيّة المتحدة وروسيّا بأن محاربة الإرهاب تتطلّب بقاء الرئيس بشار الأسد في موقعه، وبقاء الرئيس بشار الأسد في موقعه يعني نجاح الهدف من المعركة التي يخوضها حزب الله في سوريا. معركة حلب وصولاً إلى الوصل بين الحدود كلّها في سوريا دالّة على اقتراب الحسم النهائيّ، والبلوغ من الحسم نحو نجاح التسوية السياسيّة وفقًا لنتائج الميدان، وليس وفقًا لبعض التكهنات والتصورات الجوفاء. تلك النظريّة وافق عليها بدقة لامتناهية السفير الروسيّ ألكسندر زاسيبكين خلال عشاء، وقد ساقها صديق لبناني بتحليل مسهب، وخلال العشاء اكّد السفير بأنّ لا نضوج لأيّة تسوية في سوريا إلاّ مع الرئيس بشار الأسد، وستتأكّد تلك النظرية شيئًا فشيئًا مع الانكفاء التركيّ ونهاية أحلام الإمبراطوريّة العثمانيّة لدى رجب طيّب أردوغان، وقد كانت صرحًا من خيال فهوى، كما أنّها ستتأكد مع تعاون وثيق بين الأتراك والروس وبين الأتراك والإيرانيين في نحت علاقة جديدة قائمة على آفاق مغايرة لما كان سائدًا.
الميدان السوريّ غير بعيد عن طاولة الحوار تؤكد المصادر،لأنّها إمّا تتلبنن الحلول فيها وفقًا للقياس المنطقيّ لكلّ تحليل يجاري الواقع ولا يجافيه أو يعسو عليه أو يقفز حوله وكأنه ليس بمعطى راسخ، أو أنّها طاولة رهانات ضبابيّة كمثل رهان أبداه الرئيس فؤاد السنيورة على تغييرات جذريّة في الإدارة الأميركيّة تعيد إنتاج مفهوم الفوضى الخلاّقة أو الهداّمة كنظريّة سوّقت لها كوندوليزا رايس لتولد من رحمها كلّ المنظمات التكفيريّة وتطمح للحكم باسم الدين، وعلى الرغم من أن السنيورة لم يراهن عليها ولكنه راهن على إسلام ليبرالي حاكم ومهيمن يتماهى مع الغرب بل يصير جزءًا من فلسفته تجاه الشرق الأوسط والحلول فيه. السنيورة الجالس خلف طاولة الحوار والرافض لانتخاب العماد عون ومشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، يمثّل كلّ هذا الرهان وليس دقيقًا إذا كان قد تفاهم عليه مع الحريري بحالته المطلقة. إنّ حضور هذا الرهان بحدّ ذاته متمرّد (والكلمة دقيقة هنا) على أرض الواقع بسبب سوء فهم عميق بينه وبين الاستراتيجيّة الأميركيّة الجديدة الراسخة في الإدارة وعلى مستوى قراءتها للعالم الجديد بعد موت العالم القديم بوجود تلك المنظمات. فعدم الوصول نحو خروقات جديدة أو تغييرات جذريّة بالمنسوب الذي قصده الرئيس نبيه برّي يؤشّر وبالصيغة الاستراتيجيّة إلى نتائج تعاكس الميدان السوريّ وما هو مرجوّ منه وتتماهى بالتحديد مع رؤية فؤاد السنيورة ورهاناته.
حتّى يتلبنن الحلّ ان طاولة الحوار أمام واقعين مترابطين بالهدف ومتباعدين بالشكل.
-واقع سياسيّ فوضويّ يتماهى بالكليّة مع الفوضى الأمنيّة المتعاظمة، الأوراق فيه مختلطة بسبب استمرار بعض السياسيين في صراع رهانات أهدافه فاشلة. وسواء جاء الحلّ عموديًّا متصاعدًا من الأرض اي من قانون انتخابات أو هبط من علٍ أي من حصول الانتخابات الرئاسيّة، فإنّ التجسيد مشروط بعدم انتخاب العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة، وما ترشيح فريق السنيّة السياسيّة لسليمان فرنجيّة سوى وهم كبير ومناورة لم يفقهها فرنجيّة حتّى الآن. لقد ناوروا بسمير جعجع والآن يناورون بسليمان فرنجيّة، لأن السنيّة السياسيّة بالتحديد مع السنيورة ترفض وجود عون وترفض قانون انتخابات عادل يعيد التوازن في العلاقة المسيحيّة-الإسلاميّة. تلك هي الإشكاليّة الكبرى المرتبطة بجوهرها بالصراع في سوريا، المفارقة ونؤكّد عليها مرّة أخرى بأنّ السياسيين اللبنانيين يتصارعون على لبنان في سوريا ويتصارعون على سوريا في لبنان والأزمة في ظلّ هذا الصراع مستمرّة ما لم يقتنع الأفرقاء بالنتائج المتدفقة صوبنا من الميدان السوريّ على وجه التحديد. جبران باسيل قال «أننا نريد قانون انتخابات يحقق العدالة وليس قانوناً مفصلاً حسب مصالح القوى السياسية»، إنّ ورشة الحوار تضع الأفرقاء أمام احتمالين إما اختلاط النسبيّ والأكثريّ أو قانون الستين، وكأنّ بعضهم يحاول المقايضة، عون مقابل الستين. تلك هي الفوضى السياسيّة المتلازمة مع الفوضى الأمنيّة.
– واقع أمني فوضويّ سببه كما الفوضى السياسيّة، وخطورته تكمن في استهلاك لبنان من الخلايا الراقدة في بيئة النازحين واللاجئين، وما يمكن ان تحدثه من شغب على كلّ المستويات، والمعلومات الأمنيّة تؤكّد جهوزيّة هؤلاء في الضغط من لبنان على الميدان السوريّ.
طاولة الحوار أمام مسؤولية خطيرة، فالنجاح في الحل السياسيّ أفضل بكثير من الفشل لأنّ الفشل سيحمل لبنان إلى مزيد من التعثّر والتدهور والتدحرج. لعلّه بات لزامًا على المتجمعين ان يقرأوا علامات الأزمنة ويسيروا بمقتضياتها قبل أن يطوينا ظلام دامس بلا نهار جديد وضياء ساطع، والعبرة لمن يعتبر من التاريخ إلى الحاضر والمستقبل.