غداة زيارة وزير الخارجية الاميركي جون كيري الى الرياض الخميس الماضي من اجل لقاء نظرائه في مجلس التعاون الخليجي من اجل طمأنتهم الى المفاوضات مع ايران حول ملفها النووي وقوله “اننا نراقب عن كثب اعمال ايران التي تزعزع الاستقرار ولن نتغاضى عنها في المنطقة”، اطل السفير الاميركي في لبنان ديفيد هيل بعد لقائه وزير الداخلية نهاد المشنوق معلناً جملة مواقف قد يكون ابرزها انتقاده “حزب الله” لانتهاكه سياسة النأي بالنفس ولاتخاذه قرارات الحرب والسلم بالنيابة عن كل لبنان فلا يشاور احداً ولا يخضع لمساءلة اي لبناني ويرتبط بقوى خارجية، في ما فسره البعض انه ترجمة عملية لكلام كيري عن مراقبة ايران وعدم غض النظر عن ادائها وتأكيد على المسار الاميركي في هذا الاطار. الا ان موقف هيل تضمن امرين مهمين آخرين احدهما دعوة اللبنانيين الى انتخاب رئيس للجمهورية من دون انتظار اي صفقة خارجية حاضاً زعماء لبنان على احترام دستوره وانتخاب رئيسهم من تلقاء انفسهم، والآخر قوله: “انتم لستم وحدكم. يمكنكم الاعتماد على الدعم المستمر والجدي للولايات المتحدة وغيرها لضمان ان الجيش لديه وسائل للقتال”، في اشارة تذكيرية مهمة الى ان لبنان ليس متروكا للقوى الاقليمية التي تقول بالسيطرة عليه.
وان يخرج السفير الاميركي بموقف علني بات ضنيناً به في ظل ادراك هيل بالذات عدم وجود الكثير مما يمكن القيام به في هذه المرحلة التي يتمترس فيها الافرقاء السياسيون وراء انتظار استحقاقات خارجية، فانما يفيد بأن ثمة ضرورة الى اعلان ما يقوله في الجلسات الخاصة التي يعقدها مع السياسيين عن ضرورة انتخاب الرئيس وعدم انتظار الصفقات الخارجية في اشارة في شكل محدد الى المفاوضات الايرانية الاميركية. فاميركا هي الطرف المفاوض مع ايران وهي قالت وتقول بعدم وجوب انتظار صفقة تتصل بانتخاب رئيس للجمهورية لأن اي كلام عن المنطقة ليس على طاولة النقاش بينها وبين ايران ومن المرجح الا يرد لبنان على سلم اولوياتها. الا ان المشكلة ان وقع الكلام الاميركي، على رغم الاحترام الذي يكنه الوسط السياسي بغالبيته للسفير الحالي الذي لم يثر عداء لدى الافرقاء اللبنانيين ولا يتصدر الاعلام كثيراً بعد لقاءاته والسياسيين بل يبقي اطلالاته مدروسة، فيما هادنه “حزب الله” وحلفاؤه نسبيا على الارجح في موازاة المفاوضات القائمة بين ايران والدول الخمس زائد المانيا حول الملف النووي، لم يعد هو نفسه كما في السابق في ظل عدم استعداد الاميركي للانخراط باكثر من النصيحة التي تقدم في هذا الاطار او ربما الاستعداد للمساعدة اذا امكن. يقول البعض ان هناك لاعبين اقليميين باتوا اكثر حيوية من حيث ادوارهم في الشأن السياسي اللبناني الداخلي بحيث غدت هذه الادوار اكثر تأثيراً من موقف الولايات المتحدة الكلامية وهما ايران والمملكة العربية السعودية. في حين يقول البعض الاخر ان الولايات المتحدة تبقى تلك القوة المؤثرة، انما الكلام الكثير على تراجع شؤون المنطقة الدرامية باستثناء مسألة تطور تنظيم الدولة الاسلامية في العراق وسوريا، في سلم اولويات الادارة الاميركية له مفاعيله على هذا الصعيد بحيث لم يظهر اي استعداد اميركي للضغط في اي اتجاه من اجل تأمين حصول الاستحقاق الرئاسي او ان تأثيرها لم يعد اساسياً على من يعتبرون تقليدياً من حلفائها فيما تتصدر حساباتهم العوامل الاقليمية وليست العوامل الاميركية او الدولية. كما يعتقد على نطاق واسع ان الولايات المتحدة التي غضت النظر في ضوء مفاوضاتها الحيوية حول الملف النووي الايراني عن التمدد الذي قامت به ايران في المنطقة ترك مواقفها في هذا الاطار مثار شكوك كبيرة حول جديتها في مناهضة ذلك.
والانسحاب السياسي الاميركي بهذا المعنى سمح ولا يزال بتعميم الانطباعات عن ترجيح فوز محور اقليمي ينتظر انتهاء المفاوضات النووية من اجل تكريس انتصاره في فرض قواعده السياسية لجهة اختيار الرئيس العتيد. اذ نشأ عن هذا الانسحاب الاميركي من المنطقة منذ اعوام وهن في اوصال القوى التي حظيت بدعم من الولايات المتحدة نتيجة الثورة التي انطلقت في 14 آذار 2005 والتي تصادف ذكراها العاشرة هذا الاسبوع علماً ان لهذا الوهن اسبابه الداخلية الكبرى ايضا فيما ان الفريق الاخر استقوى بحكم التراجع الاميركي في المنطقة وفي لبنان ولا يخفي انه ملأ فراغاً وهو يسجل انتصاراته المادية والمعنوية على هذا الاساس اي تراجع ما يسميه المشروع الاميركي “الاستكباري” امامه ويحظى بدعم واضح وقوي من حلفائه الاقليميين، الامر الذي لا ينطبق على خصومه. وتالياً، فإن ارجاء الاستحقاق الرئاسي تحت ذريعة انتظار المفاوضات النووية يرمي الى الضغط على الولايات المتحدة من اجل ان تثير الموضوع مع ايران، فاذا فعلت حسب المراهنين على ذلك فمن المرجح في ظل عدم الاهتمام الاميركي بهذا الملف اللبناني التصرف ازاءه كما تصرف النظام السوري مراراً في هذا الاطار ودفع الاميركيين الى التسليم بالمرشح الذي كان يدعمه النظام السوري او تدعمه ايران حالياً. وفي حال لم تفعل، فإن وهج “الانتصار” من الاتفاق النووي الذي سيترجم في ايران ولدى حلفائها على انه كذلك سيترك اثره في ظل غياب الاهتمام الاميركي من اجل تعميم مفاعيل الانتصار المزعوم في كل الاتجاهات ومن بينها على الاستحقاقات اللبنانية.