ما كان في ظنّ أحد، مهما كانت عدميّته طافحة، وسوداويّته قاتمة، ومزاجه في رأس مناخيره، أن تصل أمور البعض الممانِع في لبنان إلى حدّ تنظيم حملة شاملة متكاملة في الميدان والسياسة والإعلام لترويج الفتنة والتحضير بسعادة وانشراح لإعلان انطلاقها «رسمياً»، والتنظير لذلك باعتباره تحريراً لأرض محتلة! وذوداً عن الحرّية! وصوناً للمقدّسات! وحفظاً للأرض والعرض!
هكذا دفعة واحدة، ومن دون أي خفر أو تراخٍ أو وازعٍ، يتمّم أهل الممانعة عندنا مقوّمات جرّ لبنان واللبنانيين إلى حالة فتنوية دموية غير مسبوقة تتخطّى في انحدارها العمق الذي بلغته الحرب الأهلية في أسوأ وأنحس لحظاتها.. وأسوأ ما في هذا المتوقّع السيّئ، أنّ أصحابه يتطلّعون بهمّة نضالية إلى عرقنة لبنان بعد أن تلبنن العراق وراح بعيداً في التذابح والتناطح والحفر والتمويت والتقتيل!
وعلى مثال النظرية الأبدية الخلاّبة القائلة إنّ البدايات تحدّد النهايات، وإنّ الانطلاقة الغلط لا تُوصل إلى نتيجة صحّ، يتعامل الممانعون وبقيادة «حزب الله» أولاً وأخيراً وأساساً وفرعاً، مع قضية عرسال تماماً مثلما فعلوا مع قضية سوريا من أساسها. بحيث إنّ اعتداداً زائداً بالقوّة الذاتية وآلياتها، ورسوخاً عقائدياً يصل إلى احتكار كل الحق، وقراءات سياسية تضع المصلحة الخاصة فوق الشأن العام، والارتباطات المحورية مع إيران فوق كل اعتبار، أكان وطنياً لبنانياً خالصاً، أو عربياً تحكمه اللغة والعرق والدين مثلما تحكمه الجغرافيا والتبادل النفعي، أو مذهبياً لاغياً لـ»الأمّة» ومقدّساتها.. ذلك كلّه أنتج خلطة عجيبة جعلت من قرار التورُّط في المذبحة السورية صنواً لخطيئة تاريخية وجغرافية لا تُقارَن، ومثالاً عن المراهقة السياسية والفكرية في عالم يقوده ناضجون محنّكون وصيّادون محترفون واختصاصيون في نصب الأفخاخ ورمي كل المغريات المطلوبة على الطريق إليها!
جزء من ذلك المسار العريض التائه في سوريا وما هو أبعد منها، ما يجري في هذه الأيام بالنسبة إلى عرسال.. خطأ فرعي متأتٍّ من خطيئة مركزية، لكنه أكبر منها. وشطط مؤدلج متفرّع من مركزية فكرية عقيدية أكثر شططاً، لكنه أكثر خطراً منها.. بحيث إنّه كان ممكناً، بحكم أمور كثيرة منها الأمر الواقع، أن يذهب «حزب الله» إلى خياراته السورية والإقليمية طالما أنّه يدفع الأثمان (وأي أثمان؟!) ويحصد الزؤان، ويصطدم بجبال لا تنخرها معاوله مهما صُقلت رؤوسها، وطالما أنّ مُعطى الاستقرار الوطني بعيد في الإجمال عن تأثيراتها المدمّرة برغم بعض «التفاصيل» الإرهابية والدموية.. لكن ما لا يمكن «الرضوخ» لأحكامه من شدّة صلافة تلك الأحكام وحدّتها، هو أن تصل «أموره» الخاصة بالدفاع عن بشار الأسد إلى حدّ توسّل فتنة تدمِّر لبنان. وأن تصل حملته التضليلية إلى حدّ الفتك بالنسيج الطائفي والأهلي في البقاع بداية وفي خارجه تالياً وحُكماً، وأن يسوّق ذلك كله ويغلّفه بحديث الأرض والعرض والكرامة والحرّية والأرض المحتلة!!
هل من حدود يمكن أن يقف عندها «حزب الله»؟