في ضوء ما حصل من تسريبات للنقاشات التي دارت في مجلس الوزراء (أول من أمس) فإن هناك من بات على قناعة بأن تعاطي الحكومة مع الهجمات الانتحارية التي استهدفت بلدة القاع البقاعية، لم يرقَ الى المستوى المطلوب، وكل وزير يعود الى الذاكرة، والى التاريخ مستحضراً ما يراه مناسباً، على رغم اعلان الحكومة »النفير العام«…
اللافت، ان الهم الأمني الوطني، والعسكري الاستراتيجي، لم يكونا في صلب اهتمامات القوى السياسية عموماً، او الممثلة في حكومة »المصلحة الوطنية« لاسيما وان المعطيات على أرض الواقع أكدت ان الجهوزية الأمنية والعسكرية لم تكن على القدر المطلوب، وقد تخللتها ثغرات مكنت »الانتحاريين الارهابيين« من التسلل من الأراضي السورية الى الاراضي اللبنانية بنجاح وتنفيذ جريمتهم؟!
ليس من شك في ان »الهم العسكري والأمني« الاستراتيجي لم يكن في صلب اهتمامات القوى السياسية عموماً، المنشغلين عن »الأمن الوطني« بحساباتهم ومصالحهم الخصوصية، وهم مدانون، جراء دخول لبنان عامه الثالث على التوالي من دون انتخاب رئيس للجمهورية جديد، ينهي هذا الشغور ويعيد انتظام عمل المؤسسات، ابتداءً من مجلس النواب الذي »بصم بالعشرة« على تعطيل البرلمان ولا يقوم بالحد الأدنى المطلوب من واجباته التي يتقاضى عليها »تعويضات« بمليارات الليرات سنوياً، الى الحكومة التي يكفي التوقف أمام الصفات التي يطلقها عليها رئيسها تمام سلام، لتكون أكبر ادانة؟!
من اسف ان ذلك لم يبقِ المؤسسات العسكرية والأمنية بمنأى عن هذه الأجواء غير الصحية.. وذلك على الرغم من ان هذه المؤسسات تقوم بواجبها، من ضمن الامكانات المتوافرة لديها، وهي ضئيلة جداً، وأقل كثيراً مما يجب وتفترضه الظروف غير الطبيعية التي تمر بها المنطقة ولم يعد لبنان بمنأى عن تداعياتها.. فالاعانات التي يتسلمها الجيش من عدد قليل من الدول (لاسيما الولايات المتحدة) لا ترقى الى المستوى المطلوب لبناء جيش يتمتع بالحد المطلوب من القدرات؟!. ومع هذا فقد نجحت المؤسسة العسكرية، كما سائر المؤسسات الأمنية (أمن عام وشعبة المعلومات) من تجاوز هذه الثغرات وحققت نجاحات تحسب لها، لكنها غير محسومة نهائياً.. هذا مع الاشارة الى ان القيادات العسكرية والأمنية، طالما صارحوا القيادات السياسية (داخل الحكومة ومجلس النواب وخارجهما) بأن الدعم الذي يصل، لا يرقى الى مستوى الفعالية والجهوزية القتالية، وهو في الغالب لا يتعدى الشاحنات والسيارات والألبسة والأحذية وبعض الأسلحة الخفيفة..
ترتاح الحكومة الى الوضع في الجنوب، وهي تتكل على »القوات الدولية«.. لكن الوضع على امتداد الحدود البرية بين لبنان وسوريا لم يزل يشكل متنفساً للمجموعات الارهابية التي تتسلل تحت عناوين شتى، وباسم »النازحين« وقد دفع لبنان في هذا الثمن أكثر من مرة، على رغم حملات الاعتقال المتتالية..
من الخطورة بمكان تحميل »النازحين السوريين« بالمطلق، مسؤولية ما حصل.. فهؤلاء فيهم الآدمي والفقير والمحتاج وابن البيت والعاطل من العمل كما فيهم (وهم قلة) من يمكن استغلاله وتوظيفه في مهمات.. ومن الخطأ ان يذهب البعض في لبنان بعيداً في استخدام النازحين ورقة تخويف (»فزيعة«).. وهذه مسألة ليست في صالح لبنان ولا اللبنانيين، لكن، وفي الوقت عينه لا يمكن ادارة الظهر لهذه الحالة.. لاسيما وان ما جرى في القاع، هو جزء مما يجري في المنطقة، وبات عابراً لحدود الدول، وآخرها ما حصل في تركيا قبل يومين، حيث ضرب الارهاب من جديد مستهدفاً هذه المرة أحد أبرز المرافق الحساسة والحيوية في البلاد، والمفترض ان يكون الأكثر أماناً، وهو مطار اتاتورك الدولي في اسطنبول، الذي تعرض لهجوم دموي من انتحاريين، ما أدى الى مقتل 28 شخصاً وجرح العشرات..
أكثر ما يثير القلق، هو ان يستغل البعض ما جرى في القاع من أجل خلق معادلة جديدة على أرض الواقع، تظهرت بشكل أولي بالسلاح العتيق بين أيدي رجال ونساء.. حاولوا استعادة دورهم في ميليشيات سابقة.. والتصرف بديلاً عن الدولة.. وهي مسألة بالغة الخطورة ولا يمكن تجاهلها، كما لا يمكن مقاربتها بالتوازي مع آخرين.. (»حزب الله« مثلاً).. لاسيما وان القاع، وعلى مدى السنوات الماضية، ومنذ توقف الحرب اللبنانية، كانت نموذجاً يحتذى في التعاطي مع سائر بلدات الجوار المختلطة والمتنوعة الطوائف والمذاهب..
صحيح ان البقاع عموماً، والشمالي على وجه الخصوص، سقط من ذاكرة الدولة، إلا ان ذلك لا يمكن التعويض عنه بالعودة، بشكل او بآخر، الى السلاح خارج شرعية الدولة.. وقد أدرك وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق خطورة ذلك وحذر منه، على رغم المداخلات التي اختلط فيها »حابل الارهاب.. بنابل النازحين« وبالمقارنات مع سلاح آخر خارج الدولة..
الواضح، ان الدولة في مأزق.. وهي أمام معضلة، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، كما وأنها أمام خيارات ضيقة وصعبة للغاية.. ولا بد من العودة الى نقطة البداية في البحث الجاد والعلمي والدقيق عن »استراتيجية دفاعية« قابلة للتنفيذ ومعززة بالقدرات، في مواجهة التحديات الأمنية التي خرقت كل المحرمات وفاقت كل التوقعات والضمانات.. ومن غير المجدي العودة الى المناكفات وسياسة تسجيل المواقف، على قاعدة: »أنا أتكلم اذا أنا موجود..«، او العودة لمشروع »القوات الدولية« تنتشر على طول الحدود البرية بين لبنان وسوريا (وهذه مسألة من صنع الخيال) وبين من يطالب بانشاء »أنصار الجيش« وما يحمله هذا من تفسيرات؟!.
المرحلة المقبلة ستكون حافلة بالمواقف والقراءات.. والقيادات العسكرية على قارعة الانتظار تقوم بالحد الأدنى من الواجب ضمن الممكن، وليس أمام لبنان سوى العمل، وبكل طاقته لتوفير الدعم الكافي للمؤسسات لتقوم بالواجب والنأي بها عن الحسابات والمصالح الخاصة والسجالات العقيمة؟!