قبيل أشهر، وتحديداً منذ بدأ حوار ايران والدول الست يكتسب منحى ايجابياً وسرت مناخات تؤكد حصول الاتفاق المنتظر، انبرى من السياسيين والمحللين في بيروت من يعمم قراءة مفادها انه لكي نضمن ملء الفراغ الرئاسي الحاصل يتعين انتظار نتائج جلسات هذه المفاوضات وعلى اي قرار سترسو ليبنى على الشيء مقتضاه وتنجلي صورة الشخصية التي ستحل في قصر بعبدا رئيساً لستة أعوام مقبلة.
بناء على فرضية هذه المعادلة ثمة من سارع منذ تواترت الأنباء من لوزان عن التوصل الى اطار تفاهم عريض حول الملف النووي الايراني الى بعث الروح في هذه الفرضية واطلاق العنان لموجة تفاؤل عن امكان طي صفحة الفراغ القاتل التي القت بظلالها المعتمة على الوضع اللبناني منذ ما يزيد عن عشرة أشهر.
ثمة رأيان حول نظرية الربط بين الحدث الاقليمي – الدولي الكبير (الاتفاق النووي الايراني) وبين الاستحقاق المحلي المعلّق (الاستحقاق الرئاسي). الأول يتبناه “حزب الله” وقوى 8 آذار عموماً وهو ينطلق من اعتقاد ان في هذا الربط سوء نية كونه يحمّل طهران حلفاءها في لبنان مسؤولية حرمان لبنان رئيساً يكمل صورة المؤسسات الدستورية في انتظار الاتفاق وما يمكن ان ينطوي عليه من تحولات في الملفات المترابطة حكماً ومنها الملف اللبناني، وهو اتهام يستبطن الاساءة والتشويش أكثر مما هو توصيف لواقع الحال.
والثاني ينطلق من أساس موضوعي مبني على قاعدة ترابط الساحات وتشابك قضايا المنطقة من باب المندب وصولاً الى بيروت مروراً بسوريا والعراق والبحرين، حيث لا حركة ولا سكون إلا بأمر التفاهم الايراني – الغربي المنتظر والذي يعيد تقاسم الميادين ومناطق النفوذ ويعتمد مبدأ المقايضة والتفاهم على سلة القضايا والملفات دفعة واحدة.
في الجوهر والشكل لم يعد متاحاً لأحد، أحب ايران ام عاداها، ان ينكر الابعاد الاستراتيجية لهذا التفاهم المولود للتو، واستطراداً لايمكن ان يتجاهل تأثيراته ومفاعيله المستقبلية على دول الاقليم وعلى مستقبلها السياسي وخصوصاً تلك الآيلة الى اشتعال. انه في قراءة محللين على تماس مع العقل الايراني انجاز كبير الى درجة انه يضعه في مقام “الصدمة الاستراتيجية الكبرى” التي تحتاج الى مزيد من الوقت لتتبلور تفاعلاته واوجهه المرئية والمضمرة على السواء، خصوصاً ان عملية استيلاده واخراجه الى النور أتت بعد مفاوضات دؤوبة وعسيرة امتدت أكثر من عقد من الزمن وتخللتها مواجهات وحروب وعمليات كباش وشد حبال في العديد من الساحات ومنها الساحة اللبنانية، ان لم يكن في مقدمها، انطلاقاً من نظرية يتبناها اعداء طهران العرب والغربيون، فحواها ان بيروت هي أول عاصمة من عواصم عربية اربع وقعت في قبضة الهيمنة الايرانية نظراً الى قوة حلفاء ايران فيها وابرزهم “حزب الله ” وامتلاكهم مشروعا كامل المواصفات.
وعليه فان ثمة من يذهب الى استنتاج جوهره انه كما كانت المفاوضات التي أفضت الى ولادة الاتفاق مصدراً لصراعات وازمات في عواصم عدة لتعزيز أوراق المتفاوضين او اضعافها، سيكون الاتفاق نفسه وتطبيقه او عرقلته مصدر هم وهواجس للعواصم عينها من الآن فصاعداً.
لكن الأمر مرتبط أصلاً بسؤال أساسي هو: من الذي يعتبر الكاسب والرابح الأكبر من ابرام الاتفاق ايران ام خصومها الكثر؟ بالطبع الاجابات ستتعدد ووجهات النظر ستتوالد وتتباين، ولكن الثابت في رأي اصدقاء طهران في بيروت ان “عاصفة الحزم” التي بدأت على اليمن قبيل أيام من استيلاد الاتفاق كانت غايتها الجوهرية أمران:
– التعتيم والتغطية على مفاعيل الاتفاق الذي يصب في المصلحة الايرانية والتقليل من أهميته وصداه عند مكونات محور خصوم طهران، وخصوصاً العرب الذين يرفضون التكيف مع هذا التطور والتعايش مع نتائجه.
– الايحاء لمن يعنيهم الأمر بأن الأكثر أهمية ودوياً ليس الاتفاق نفسه بقدر ما هو حدث “عاصفة الحزم” الذي مازال يتوالى فصولاً حبلى بنتائج تذخر بالوعود والرعود ستتبدى تباعاً عاجلاً أم آجلاً، وهي ستسقط حتماً أي اخلال بمعادلات يعتبرها البعض لمصلحة طهران ومن يدور في فلكها ويراهن عليها.
وأصحاب هذه الرؤية يراهنون على ان تنفيذ الاتفاق يحتاج الى أعوام لكي تتبدى نتائجه وتتكرس، في حين ان نتائج “عاصفة الحزم” قد بدأت تظهر تباعاً، فضلاً عن انها حدث ممتد. ولقد أبرزت التطورات المتسارعة ان “العاصفة” متعددة الشريك اذ ان شراكة تركيا تظهر مثلاً في ادلب وريف حلب، وشراكة الاردن تتضح من جهة درعا وريف القنيطرة، فيما كل الاحتمالات مفتوحة في اليمن حيث الدور الأكبر للسعودية ودول الخليج ومصر وباكستان. والرهان انه فيما تحتفي طهران باتفاق لوزان الذي حاكت خيوطه مع العالم سيكون عليها ان تتعايش مع خسارات متتالية في سوريا وربما ساحات ومناطق أخرى حساسة لها تحت عنوان عريض هو ان الصراع لم يضع أوزاره بعد وان على المبتهجين ألا يذهبوا بعيداً بفرحهم لأن “الآتي أعظم”.
وأصحاب هذا الرأي يستخفون بما سرى اخيرا في بيروت عن ان هناك من بادر الى الاتصال بالعماد ميشال عون مهنئا اياه بالرئاسة سلفاً فور ذيوع نبأ اتفاق لوزان باعتبارها صارت معقودة اللواء له.
ولا يخفي هؤلاء ان “العاقل” في التحليل هو من يربط الملف اللبناني بالملف السوري حصراً، والأخير يشهد تقدماً لافتاً لاعداء النظام الذي أخفق في تحقيق ما وعد به وهو سد ثغرتي درعا وحلب ثم فقد ادلب، فضلاً عن مفاجآت أخرى غير سارة تنتظره قريباً. في المقابل تتبنى دوائر الفريق الآخر رؤية فحواها انه لايمكن اغفال مفاعيل اتفاق لوزان على كل الساحات المرتبطة، ولا يمكن أيضاً تجاهل أمر واقع مستجد فحواه ان ايران وحلفاءها الذين صمدوا وواجهوا مدى عقود هم مستفيدون من مفاعيل هذا الاتفاق حاضراً ومستقبلاً. اما الرهان على تحولات في الميدان السوري يبدّد تلك المفاعيل فهو يشبه الرهانات التي انعقدت في الفترات الأولى لاندلاع المواجهات هناك والتي خابت لاحقاً. أما على المستوى اللبناني فثمة رؤية تقوم على الآتي:
– الاستقرار مستمر وكذلك الحوار.
– المشهد اللبناني بعد اتفاق لوزان هو حكماً ليس كما قبله.
– أي أمر داخلي لن يتم من دون تسوية وتفاهم يأخذ في الاعتبار موازين القوى والمعادلات، وفي مقدمها معادلة الرؤساء الاقوياء التي يتعين التمعن فيها جيدا لكي يتم ولوج باب الحل والخروج من نفق الأزمة.