IMLebanon

أية مراجعة.. لأي لبنان؟

كلنا بحاجة الى نقد ذاتي ودراسة معمقة للحرب الأهلية المستمرة وأسبابها. ولكن هل هذا يعني وضع الجميع في سلة واحدة من المسؤولية؟ وهل هذا يعني التعمية على الأسباب الحقيقية للحرب؟

حكماً التعمية على أسباب الحرب، تؤدي إلى تجديد ظروفها واستمرارها لفترات أطول وبالتالي وضع شبابنا أمام واقع مر ومستقبل مظلم.

الحقيقة الثابتة، أن المرحلة الأخيرة من الحرب، اندلعت في نيسان 1975، بل في شباط 1975 مع اغتيال المناضل معروف سعد، بل وقبل ذلك في نهاية الستينيات، إنما جاءت لتقطع مسارًا بدأ على المستوى الاجتماعي، بتصاعد تحركات العمال والمعلمين والمزارعين والشباب والطلاب، تحت شعارات متشابكة، من المطالبة بالحقوق وتحسين لقمة العيش ومواجهة الاستغلال والإفقار والاحتكار الذي يمارسه التحالف الطبقي الحاكم في إطار النظام الطائفي، إلى المطالبة بالإصلاح والتغيير السياسي باتجاه نظام ديموقراطي عربي، يلغي الطائفية ويحقق الانتماء الوطني بديلًا للانتماءات دون الوطنية السائدة.

الجانب الثالث من الشعارات المتشابكة في مسار التغيير، كان المتعلق بالقضية الوطنية، وليس المقصود هنا دعم المقاومة الفلسطينية، بقدر ما كان يركز على تأمين صمود أهالي الجنوب وتعزيز المقاومة الشعبية في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة.

كان المسار المعتمد من قبل القوى الديموقراطية، هو مسار سلمي قائم على التحركات الشعبية بعيدًا عن السلاح. لكن سرعان ما تحركت قوى النظام بدفع من الخارج لضرب هذا المسار في كل شعاراته، فتعرضت التحركات الشعبية للقمع، من قمع عمال معمل غندور ومزارعي التبغ إلى ضرب تحركات الطلاب في الجامعات إلى اغتيال الشهيد معروف سعد.

لقد أصرت «الحركة الوطنية» على هذا المسار الديموقراطي، من خلال برنامجها المعلن في 18 آب 1975 تحت شعار: «من أجل إصلاح ديموقراطي للنظام السياسي في لبنان».

وحتى لا نستعيد الشريط كاملًا، لا بد من التذكير ببعض المحطات ـ النكسات في هذا المسار.

النكسة الأولى، تمثلت بالحرب الأهلية ذاتها، وبدور النظام وقواه في تأمين شروط الحرب بهدف إعادة تثبيت أسس النظام وتكريس دوره في خدمة المشروع الأميركي في المنطقة، عشية اتفاق كامب ديفيد.

النكسة الثانية، تمثلت بضرب الأساس الديموقراطي لمشروع التغيير عبر اعتصام «المفتين» في عرمون، بدعم من القيادة الفلسطينية، وتراجع القيادات الوطنية أمام هذا الاعتصام وتحويل الشعار من التغيير الديموقراطي إلى «المشاركة» التي تعني في جوهرها التمسك بالنظام الطائفي وتنظيم محاصصة جديدة داخله.

النكسة الثالثة، تمثلت بالدخول السوري إلى جانب قوى النظام والتي انتهت باغتيال رمز المشروع الديموقراطي العربي الشهيد كمال جنبلاط.

وآخر معالم الهزيمة، كان اتفاق الطائف نفسه، الذي شكل الإطار الدولي الإقليمي لتجديد النظام الطائفي وتعميق تناقضاته وتحويله إلى نظام مذهبي يكرس مصالح الرأسمال اللبناني وارتباط لبنان الكامل بالتوازنات الإقليمية.

نعم شَكَّل اتفاق الطائف، نكسة لمسار التغيير الديموقراطي وانتصارًا مستوردًا للقوى المذهبية والطائفية، وفي كل الحالات، أتى ليشكل أطول هدنة في مسار الحرب الأهلية المستمرة منذ ذلك الحين.

إن القراءة الموضوعية تستدعي القول إن هذه الهدنة الطويلة، سقطت في العام 2003 (مع احتلال العراق) ودفنت مع اغتيال أحد رموزها أي الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، ونحن اليوم في إطار حرب أهلية مستمرة تتعدد أشكالها وإداراتها.

ولعل عدوان تموز 2006 شَكَّل الظاهرة الأبرز في استمرار هذه الحرب، خصوصًا بالجانب المتعلق من الخلاف اللبناني ـ اللبناني حوله، وكل الأحداث الأمنية التي تتالت واتخذت أشكالًا طائفية ومذهبية ـ وصولًا للتهديد الكبير الذي تشكله القوى الإرهابية على حدودنا ربطًا بالتطورات العربية وتحديدًا في سوريا.

ولا بد من التأكيد أن العوامل الداخلية والتعبئة الطائفية والمذهبية تبقى الرافد الأساسي لهذا الإرهاب الذي أصبح داخليًّا في تهديده وتكوينه وليس خارجيًّا فقط.

وجوانب الأزمة ذاتها: العدو الإسرائيلي، المشروع الأميركي، بعض قوى المواجهة المفترضة، تستعيد دور «لقاء المفتين» في الإبقاء على الخطاب المذهبي والطائفي أساسًا في المواجهة.

القوى المذهبية المتناحرة ـ المتحاورة، تختلف على كل شيء، وتتفق على ضرب الحركة الشعبية والنقابية الديموقراطية، وتخضع بالجملة لإملاءات الطغمة المالية والهيئات الاقتصادية، وفي المقابل، تعطل كل المؤسسات باتجاه السعي لتحاصص طائفي مع هذا النظام الذي لا يمكن ان ينتهي إلّا بتغييره.

إن دعوتنا لمؤتمر تأسيسي للدولة الديموقراطية، ليست دعوة مستجدة لا مِنَّا ولا مِن غيرنا. إنها الفقرة التي اختتم فيها كمال جنبلاط وقادة الحركة الوطنية «البرنامج المرحلي» في آب 1975 عبر الدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية، حيث جاء:

«إن الصيغة الأفضل لتنظيم عملية الوصول إلى هذا الإصلاح الديموقراطي للنظام السياسي تكون بالاحتكام إلى إرادة الأكثرية الشعبية، عبر دعوة اللبنانيين إلى انتخاب جمعية تأسيسية على أساس لا طائفي، تمثل مختلف التيارات السياسية والتجمعات الشعبية في البلاد لتقود حوارًا وطنيًّا واسعًا بشأن الإصلاح المقترح، ولتضع التشريعات الدستورية والنظامية اللازمة لوضعه موضع التغيير».

هذه شمعة أضيئت في العام 1975، وما زالت هي الضرورة للخروج من نفق الحرب الأهلية المستمرة.

(]) الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني